أقلام الثبات
من الواضح ان العالم اليوم يرزح تحت وطأة مخاضات سياسية واقتصادية ومالية طاحنة، ولعل الابرز على المستوى الدولي، ما يحيط بمنظومة الدول الغربية ولا سيما الدول المكونة لحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، التي عاثت هي وحلفاؤها فسادا وقتلا وتدميرا في العالم كله.الا ان الازمات الحالية دخلت البيت الاطلسي من اوسع ابوابه، عندما طفت المصالح الخاصة بكل دولة على السطح، وفتح كل دولة من الاعضاء الكبار في الحلف مشكلات مع دول أخرى للهروب من الازمات الداخلية المتفاقمة في كل منها، وهذه الامور مجتمعة تشي بان نهج رفع حدة المواجهة سيطغى على المشهد العالمي، مع تنامي الحديث عن أزمة مالية اميركية، سوف تنعكس عالميا، وبالضرورة على سكان الولايات المتحدة أولا، وكل من ربط مصيره الاقتصادي بالدولار، او قبل ان يكون مطية للسياسات الاميركية على اختلافها.
هذا السيناريو الواقعي بفقدان الثقة بالمنظومة المالية الاميركية، والتي ستؤدي حتما الى فقدان الدولار نسبة عالية من قيمته، وانعكاس ذلك على الشعوب في الولايات المتحدة، معطوفا على خسارة الولايات المتحدة مصداقيتها السياسية أمام الحلفاء الذين سيبحث كل منهم عن ملاذات آمنة خاصة على المستوى الاقتصادي والمالي سيدفع العقل الاميركي الى استنباط أشرس ما في خلاياه.
إن ابرز سمات "ضرب الاكتاف " بين الحلفاء في الاطلسي، التلويح مباشرة من بعض الأعضاء، بمغادرة الحلف سيئ الصيت والسمعة نتيجة ارتكاباته الدموية على الكرة الارضية، بعد شعور البعض من الدول الأعضاء انها تعرضت للخيانة او الطعن بالظهر مثل فرنسا على خلفية منع واشنطن صفقة الغواصات الفرنسية لاستراليا .
لم يكن لواشنطن منع الصفقة مع فرنسا والاستيلاء عليها وتجيير جزء منها الى بريطانيا، لولا عاملين القيا بثقلهما على الولايات المتحدة .
الاول، الشعور المتنامي لدى القادة الاميركيين سواء في السياسة، او العسكر، بأن الاوروبيين يطرحون جديا إنشاء جيش اوروبي مستقل عن الناتو واميركا، بعد انسحاب القوات الاميركية مهزومة من افغانستان، ومن دون التنسيق مع الاوربيين المشاركين مع الجيوش الاميركية، وبقيادتها، في غزو وتدمير افغانستان، وهو ما عبر عنه الفرنسيون والالمان أكبر دولتين اوروبتين في حلف الناتو، وأقوى دول اوروبا على المستوى الاقتصادي، والمانيا الاولى حتما، فيما فرنسا من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن .
العامل الثاني، هو ان الولايات المتحدة تمر فعلا في أزمة مالية قد تقودها الى ازمة اعتى من تلك التي شهدتها عام 2008، وتتعاظم المخاوف لدى الاميركيين، من ان تفقد عملتهم نسبة عالية من قيمتها في غضون أشهر لاسباب عدة، أولها حجم طباعة الدولار خلال العام الأخير بما يعادل ما طبعته واشنطن خلال خمسين عاماً، مضافا الى ذلك، الازمة المالية العالمية التي يتحدث عنها الخبراء الاميركيون انفسهم، والمعركة الاميركية الداخلية بشأن رفع سقف الدين الفيدرالي، والاحتمال الكبير على هذه الخلفية في تخلف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها(الديون)، وهذا الامر اذا حصل سيكون كارثيا على الولايات المتحدة، وفق الخبراء الاميركيين، وسينتج عنه أزمة ركود عالمي، بموازاة فقدان الأسواق المالية الثقة في الولايات المتحدة، وسينعكس ذلك على أسواق الأسهم التي ستخطو نحو الانهيار بسرعة .بالاضافة الى ذلك فهناك خلاف حتى بين دول الاتحاد الاوربي نفسه في مسألة الروح العدائية الأميركية اتجاه الصين وروسيا .
اما على مستوى حلف "الناتو "، فان الصراعات لم تعد خافية رغم محاولة اظهارها على غير حقيقتها، إذ طفت على السطح الصراعات البريطانية - الفرنسية التاريخية بعد خسارة فرنسا لصفقة الغواصات، وانشاء حلف "أوكوس" الأمني الجديد، واستل كلاهما ما وصلت اليه ايديه من الجعبة، ففرنساالمتوجسة من الحلف الثلاثي الجديد (اميركا - بريطانيا - استراليا) اتهمت بريطانيا، بعدم الوفاء بمخرجات مغادرتها الاتحاد الاوروبي، لا سيما على المستوى المالي الذي تحتاجه اوروبا، فيما بريطانيا اتهمت فرنسا، بسرقة ملايين اللقاحات كانت وجهتها المملكة المتحدة، مضافا الى ذلك الخلافات على مساحات الصيد البحري، وقد حذر رئيس الحكومة الفرنسية جان كاستكس أيضاً عن عدم إمكانية التسامح مع بريطانيا متهما إياها بأنها لا تحترم التزاماتها بشأن "بريكست"، مشيرا لأن التعاون الثنائي بين البلدين "في خطر.ودعا كاستكس، الاتحاد الأوروبي إلى أن يكون "أكثر حزما" تجاه بريطانيا، متوعدا بأنه "إذا لم يكن ذلك كافيا، سنضغط، لدفع البريطانيين لاحترام تعهداتهم وسنعيد النظر في كل الشروط المدرجة في الاتفاقيات التي أبرمت برعاية الاتحاد الأوروبي، بل كذلك بالتعاون الثنائي بيننا وبين المملكة المتحدة".
ان اعضاء الحلف لم يتمكنوا من معالجة التنافر اليوناني التركي الذي كاد يصل الى صدام عسكري، الذي يبدو أنه معلق في الوقت الحاضر، الأمر الذي سارعت باريس بعد تطوره الى مؤزارة اليونان مستفيدة من خلافاتها مع تركيا من جهة، وعقد صفقة بيع غواصات لليونان من جهة ثانية.
واذا كان المشهد الداخلي بين الحلفاء على هذه الصورة، فان لكل من الدول مشكلاتها الدولية الخاصة، ففرنسا ايمانويل ماكرون المتوجس خيفة من الانتخابات المقبلة، فتح جبهات أخرى ابرزها الجزائر ومالي والصين، الا أن ابرز تلك الجبهات هي الجزائر من أجل استقطاب اليمين المتطرف عبر تشكيكه بالامة الجزائرية، وعدم اعترافه بحكومة مالي، واستفزاز الصين بزيارة وفد فرنسي إلى "تايوان"، الأمر الذي رأت فيه بكين سببا يهدد بالإضرار بمصالحها وبالعلاقات مع باريس وبصورة "فرنسا" ذاتها، في حين رفضت الخارجية الفرنسية الاحتجاجات الصينية مشددة على أن أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي أحرار في "تنقلاتهم" .
وعلى المستوى الاستراتيجي، فان العلاقات مع الولايات المتحدة وبين الصين وروسيا في طريق احتواء الاحتضار، وخصوصا بعد اقصاء ممثلي روسيا في بروكسيل عن الحضور وهو ما اعلنت روسيا بأنها سترد عليه بشدة، كما ان العلاقة الصينية - الاميركية لا تحتاج الى تفسير في تنامي التنافس المتناقض في اهم الملفات العالمية ولا سيما الاقتصادية والامنية والعسكرية، واضيفت اليها الاستفزازات في بحر الصين الجنوبي، وكذلك تسليح تايوان اميركيا، في وقت يترهل الامن الاميركي ولا سيما ذراعه الاقذر في العالم - اي المخابرات المركزية " سي آي ايه".والتي أعربت عن بالغ قلقها إزاء تكبدها خسائر ملموسة في صفوف الجواسيس العاملين لصالحها في دول أخرى، وفي هذا الاطار كشفت "نيويورك تايمز"أن مسؤولين كبارا في الاستخبارات الأميركية بعثوا رسالة سرية غير عادية إلى كل مكاتب وقواعد CIA في الخارج حذروا فيها من زيادة مقلقة في عدد حالات اغتيال أو اختطاف جواسيس تم تجنيدهم لصالح الولايات المتحدة في دول أخرى.وأقرت الرسالة، بأن عدد الجواسيس الذين تم إعادة تجنيدهم من قبل استخبارات أجنبية لا يزال مجهولا، ما قد يجلب مخاطر على أنشطة CIA المستقبلية.
من المعروف ان اي امبراطورية تدرك انها تتآكل على المستوى الداخلي، وانها باتت تفقد هيبتها وسطوتها على البلدان "المستعمرة" تدرك اكثر ان تفككها اقترب، ولذلك تلجأ الى تصعيد العنف والتوحش، باعتقاد واهم بانه الطريق الاوحد لاستعادة مكانتها وتسلطها، بينما تكون تحفر مقبرتها بيديها.