أقلام الثبات
يظن المتابع لردود فعل الأكثرية الساحقة من أصحاب الودائع من اللبنانيين، الذين سرقت المصارف أموالهم المودعة لديها - وليس كل الظن إثم - أن تلك الأموال هي أموال حرام جمعت بطرق غير شرعية، لذلك يخجلون، أو لا يجرؤون على المطالبة بها، وإلا ما هو سر هذا الصمت وردود الأفعال الخجولة، التي تحدث منذ حصول المجزرة المالية بحق الإيداعات المصرفية؛ مع ما تلاها من سحق لقيمة العملة الوطنية، التي تراجعت قدرتها الشرائية وقيمتها أمام الدولار الأميركي ستين ضعفاً، مما عمم الكارثة على كل الشعب اللبناني.
تزداد مشروعية هذا الكلام وتلح بشدة، أمام ما يجري في أروقة السرايا الحكومية ومبنى المجلس النيابي، في تعاطي السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع "قانون الفجوة المالية واسترداد أموال المودعين"، حسب التسمية لحكومية له، فالمسرحية تسبك بدهاء، لخداع أصحاب الحقوق وسلب مستحقاتهم القانونية؛ ولإعفاء اصحاب المصارف من تبعات جريمتهم، بتجاوزهم لموجبات العقود الموقعة من قبلهم مع المودعين. إذ لا يكفي أنهم احتجزوا أموال الناس وهربوها إلى خارج لبنان، بل أوقفوا دفع فوائدها لأصحابها خلال السنوات الماضية؛ وأكثر من ذلك، هم يفرضون على الودائع "ضريبة خدمة"، هي خوة لصالح المصارف، مقابل كل عملية مالية تجري من حسابات المودعين، يعني فوق احتجاز المصارف للأموال، يتصرف المصرفيون كالمنشار، يأكلون من رصيد حساب المودع بالطالع والنازل. ثم يرشون بالتعاون مع الحكومة، أصحاب الودائع الصغيرة تحت سقف المائة ألف دولار، بإعادتها لهم خلال أربع سنوات، هي زيادة على السنوات الست الفائتة. أما أصحاب الحسابات فوق المائة ألف دولار؛ وهي في معظمها أموال مغتربين ورجال أعمال، أو تعويضات نهاية الخدمة لموظفين وغير ذلك، فعلى الوعد يا كمون، سيحصلون لقائها على أوراق سندات، هيهات يحصلونها نقداً قبل أن تنطوي دروب أعمارهم.
ولا ننسى أن أصحاب المصارف وشركائهم، هم أبرز المستفيدين من السياسات المالية خلال العقود الماضية، إذ أن مجموع رساميل أصحاب المصارف عام 1992 كان اقل من ثلاثمائة مليون دولار، في حين وصلت عام 2019 لتفوق السبعة وعشرين مليار دولار، بعد أن وزعت المصارف أرباحا طوال السنوات السابقة.
وحسب التقارير المتداولة في ذلك الوقت، فإن المصارف اللبنانية دفعت الى مودعيها بين عامي 2009 و2018 فوائد بقيمة 63 مليار دولار، ذهب معظمها إلى كبار المودعين. وراكمت المصارف أرباحاً مصرحاً عنها في تلك الفترة، قبل الضريبة ومن دون الأرباح غير المصرح عنها، بقيمة 21،2 مليار دولار.
كل ذلك بالشراكة مع الحكومات المتعاقبة والسلطات المالية؛ وتحديداً حاكمية مصرف لبنان، فالمسؤولون وكبار السياسيين والزعماء والنافذين في هرمية الدولة، طوال العقود الماضية، استنزفوا خزينة الدولة في الهدر والسرقات والصفقات والتعهدات الزبائنية، ثم مالوا على أموال المصارف، التي خانت المودعين وتصرفت بأموالهم، عندما دينت الحكومات المتعاقبة بفوائد خيالية، تعدى بعضها الأربعين في المائة، كانت أرباحاً غير مشروعة، تقاسمها كبار السياسيين وزعماء الطوائف مع أصحاب المصارف، الذين كشف تجاهلهم جميعاً لتهريب أموال الناس إلى الخارج، عن تواطؤهم وتشكيلهم فريقاً واحداً متكافلا ومتضامنا، في حماية بعضه البعض وفي تمييع الجريمة المالية التي استهدفت لبنان واللبنانيين وغيرهم من المودعين. والدليل الدامغ على فساد المسؤولين السابقين والحاليين، الإفراج غير المبرر عن رياض سلامة، حافظ أسرار الفساد والفاسدين؛ والشريك الفعلي في هدر اموال خزينة الدولة، تكفي هندساته المالية لسجنه مدى الحياة.
هذا الاستسلام الظاهر في تحركات المودعين، يدعوا إلى الحيرة والتساؤل، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، فكيف بالساكت عن سرقة ماله وجنى عمره، خصوصاً أن اللبنانيين ومن ضمنهم المودعين لطالما سمعوا من أهاليهم كلاما مأثوراً يقول: "من أخذ مالك بغير حق، فلتأخذ روحه". أي أن التراث والتربية البيتية يجيزان لمن جرى السطو على ماله، أن يستعيده بالقوة، مما يعيدنا إلى القول الحق: "كما أنتم يولى عليكم".
والأنكى أن هذا السكوت يشمل معظم اللبنانيين، تجاه ما فعلته بهم كارتيلات ومافيات تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، من تجويع وإفقار، في تلاق غير بريء مع سلسلة العقوبات والحصار، الذين تفرضهم الولايات المتحدة الأميركية عليهم، من ضمن "قانون قيصر" الأميركي، الذي أوقفت إدارة دونالد ترامب العمل به مؤخراً، فيما تأثيره التخريبي ما يزال فاعلاً في حياة اللبنانيين.
ولا ننسى في هذه العجالة، الإشارة إلى أن المجلس النيابي، كما كل المجالس السابقة، هو العوبة بأيدي أصحاب المصارف، لأن السواد الأعظم من "ممثلي الشعب"، هم أعضاء في مجالس إدارات المصارف والبنوك اللبنانية، أو تلك العاملة في لبنان. وبالتالي، لا يمكن التعويل عليها لحماية أموال المودعين من جشع ونفوذ أصحاب المصارف.
لذلك، فإن مشكلة شعب لبنان، هي في الدرجة الأولى مع حكامه، الذين يرونه مجرد خدم وحشم ومرافقين وأزلاماً، يتقاتلون فيما بينهم عندما تثار عصبياتهم الطائفية. أما الوطن فيرونه سوقاً تجارية ومصرفاً وماخوراً ومكاتب قنصليات وسفارات؛ ومقار استخبارات ودور عملاء. وهذا التدليس سيورث ما هو أخطر وأدهى، لأن السكوت على هدر المال الخاص، سيشجع الفاسدين على الاستيلاء على ما تبقى من مال عام؛ ألا وهو أملاك الدولة، التي سرعان ما سيبيعونها، لتصفية خسائر المصارف ولتعويم خزينة الدولة؛ ولإنقاذ المصارف المفلسة وسد الثغرة التي أحدثتها هندسات رياض سلامة في ميزانية مصرف لبنان، فالسكوت عما يجري هو فساد السارق والمسروق.
هل يُولد "لبنان الإسرائيلي" من شمال الليطاني أو تُجهضه المقاومة؟ _ د. نسيب حطيط
لبنان... ونظام القرارات والمُهل الزمنية الأمريكية ــ د. نسيب حطيط
الاستعمار القديم يطل برأسه.. فكيف تكون المواجهة؟ _ يونس عودة