الثبات – مقالات
تحديد النسل بالأسباب الوقائية في الميزان الاجتماعي
العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
يعيد الباحثون ميلاد هذه الدعوة في العالم إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ويربطها بالقسيس والعالم الاقتصادي البريطاني مالتوس Malthus. كان الشعب البريطاني يتقلب إذ ذاك في سعة من العيش وترف ورخاء عظيمين، وقد لاحظ أن الشعب البريطاني يتكاثر عدده أكثر من المتوقع، فنشر مقالاً عنوانه (تزايد السكان وتأثيره في تقدم المجتمع في المستقبل) في عام 1798م أوضح فيه أن وسائل الإنتاج وأسباب الرزق في الأرض محدودة، غير أنه لا يوجد حد يقف عنده تزايد السكان وتضخم النسل. فإذا ترك الأمر بدون تنسيق، فإن المفروض أن يأتي يوم تضيق الأرض فيه بسكانها وتقل فيه وسائل العيش عن تلبية حاجاتهم. ثم اقترح العمل على أن يكون نمو عدد السكان متلائماً مع نمو وسائل الإنتاج، وأن لا يزيد الأول على الثاني بحال. واقترح لتنفيذ هذا التنسيق سبيلين اثنين:
أولهما: ألا يتزوج الشباب إلا بعد أن تتقدم بهم السن.
ثانيهما: أن يبذل الأزواج – بعد أن تجمعه الحياة الزوجية - قصارى جهدهم، وبمختلف الوسائل، في سبيل الإقلال من الإنجاب.
وما كادت أفكار مالتوس هذه تنتشر، حتى ظهر الباحث الفرنسي فرانسيس بلاس Francis Palaces فنادى بدعوته ودعا إلى ضرورة الحد من تزايد السكان. وبعد قليل ظهر في أمريكا الطبيب المشهور تشارلس نوروتونCharles Knorotton فأيّد الفكرة ذاتها، موضحاً التدابير الطبية التي اقترحها لتنفيذ الفكرة.
وسرعان ما لقيت هذه الدعوة رواجاً في الأوساط المختلفة واستقبلت، من الغرب المقبل على بحر من التحلل لا شاطئ ولا قرار له، تربة صالحة؛ ووجد الباحثون عن اللذة والهاربون من مغارم المسؤولية في الاستجابة لها ما يحقق بغيتهم ويقرب هدفهم.
إن الذي أثبتته الدراسات العلمية الموضوعية ودلّت عليه تجارب الزمن ووقائع التاريخ، عكس الذي تصوره أصحاب هذه الدعوة، فلنشرح ذلك بالقدر الذي يتسع له هذا المجال:
1-إن أرباب هذه الدعوة، وفي مقدمتهم مالتوس - أقاموا دعوتهم على خطيئة كبرى في تقدير الأمور، وفي معنى الرزق الذي يحتاج إليه الإنسان. ألا وهي تصورهم أن الحاجات الإنسانية محصورة في الخيرات الثابتة في الأرض والمنافع الطبيعية الكامنة فيها بقطع النظر عن أي تفاعل بينها وبين الإنسان. وهي بدون شك، منافع وخيرات محصورة سرعان ما يربو عليها نمو السكان وتكاثف الأفراد. ولكن الأمر في حقيقته ليس كذلك.
ليست مقومات العيش لبني الإنسان، متمثلة في هذه المدخرات الثابتة من زيت وفحم وحديد وغيرها، وإنما هي كل ما قد يتوالد من تزاوج هذه المدخرات مع ما قد يبذله الإنسان من جهد ويحقق من تدبير في سبيل الوصول بهذه المنافع الطبيعية إلى أقصى درجات الاستفادة المتنوعة.
2-إن المتحمسين في الدعوة إلى تحديد النسل، يذهلون عن حقيقة ذات أهمية كبرى في ترسيخ دعائم الحضارة والمدنية في المجتمع. وهي حقيقة صدقتها وقائع الترايخ، ثم هي من الوضوح بحيث ما ينبغي أن تخفى على أحد. إن أي أمة، لا يتاح لها أن تصعد في مرقاة الحضارة، إلا بالاعتماد على أولئك العباقرة والمبدعين وأرباب الطاقات الهارقة فيها، وهم يشكلون دائماً نسبة قليلة بالنظر لمجموع الأمة أو عامة الشعب. غير أن هذه الأمة كلما كانت أكثر عدداً، كانت هذه الصفوة فيها أوفر عدداً وأكثر تنوعاً، وكانت فرص الاختصاصات والمهارات العملية أمامها أرحب وأوسع.
إن من البداهة بمكان أن أي أمة قليلة العدد لا يمكن أن تتمتع بتنوع واسع في مواهب أفرادها، ولا يمكن أن تتسع أمام أفرادها ميادين التنافس على المهارات والعلوم المختلفة، وبالتالي لا يمكن اصطفاء المبرزين في كل من هذه الميادين لملء الثغرات الهامة بهم. إذا إن رأس مال ذلك كله إنما هو الكثرة والفيض السكاني إذ ينساح في الأرض.
وتبدو لك ثمرة هذ الذي نقوله فيما تلاحظه من كثرة أصحاب الاختصاصات العميقة في الأمم الكثيرة العدد، ومن قلة هؤلاء الرجال في الأمم القليلة العدد.
إن الدعوة إلى تحديد النسل لو فرض أن لها في سائر أطراف العالم مسوغاتها وأسبابها، لن يكون لها في العالم العربي إلا ما يكشف عن أسوأ نتائجها وأوخم عواقبها. فكيف وقد لفظتها طبيعة العالم بأسره؟!
إن العالم العربي عالم واسع فسيح، تتجاوز مساحته 12,76 مليون كيلومتر مربع، ويزيد عدد سكانه على 150 مليون نسمة. فهو أوسع بلاد العالم التي تسكنها أمة واحدة ذات مقومات واحدة لوحدة الأمة. إذ تقارب مساحته عشر مساحة المعمورة، وهو يزيد كثيراً على ضعف مساحة أوروبا، ويعادل المرة وربع المرة من بلاد الصين، ويزيد على المرة ونصف المرة من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية.
وهو يقع في أهم مناطق الأرض، إذ يصل _كما تعلم_ بين قارات ثلاث، ثم إن مفاتيح المحيطات والبحار كلها تقع تحت يده. ثم إن هذه المنطقة الهامة، تتمتع بعد ذلك كله، بذخر متنوع لا ينضب من الثروات الظاهرة والباطنة. تجمعت فيها حيث تتجمع بهذا التكامل، في أي بقعة أخرى من العالم.
فإذا علمت بعد ذلك كله أن الكثافة السكانية في هذه المنطقة لا تزيد عن 8 أو 9 أشخاص في الكيلومتر المربع منه، في حين أن الكثافة السكانية في أوروبا تربد على 87 في الكيلومتر المربع – أدركت مدى خطورة الجريمة التي تنطوي على الدعوة إلى تحديد النسل في هذه المنطقة.
إن أي تقدم اقتصادي أو عمراني في ربوع الوطن العربي، رهن بزيادة سكانه. ومالم تتحق هذه الزيادة بنسبة عالية، فإن شيئاً من أحلام المشاريع الاقتصادية الكبرى لن يتحقق فيه، ولن تتواثب العقول المبدعة لشيء من التسابق والتنافس الشريفين في ميدان البحث العلمي والإنتاج الاقتصادي، ولن تتشابك أيدي التعاون لنصرة الحق ورد الكيد.
إن من المتفق عليه عند علماء الاقتصاد أن عوامل الإنتاج ثلاثة: الأرض والإنسان ورأس المال، وأن الإنسان هو أهم هذه العوامل الثلاثة: إذ هو الذي يبدع في العاملين الآخرين الحركة والاستهداف والتفاعل.
فمهما كان الوطن العربي غنياً بالأرض الواسعة ورأس المال العظيم، فإن شيئاً من ذلك لن يتحول إلى تقدم ورخاء إلا بالكثافة البشرية إذ تتحرك فتحيل كلاً منهما إلى طاقة وإبداع.
ولتعلم أن أي تصور لإمكانات الوطن العربي، يعتمد على واقع التجزئة والتمزق اللذين يعاني منهما، جريمة نكراء تستهدف التنكر لتاريخ هذه الأمة والاستخفاف بما تملكه من مقومات الوحدة، وفي مقدمتها الدين الحق الذي يظل أرضها ويجمع شملها.
هذا وأنا لا أتكلم عن العالم العربي إلا بوصفه جزءاً لا يتجزء من العالم الإسلامي؛ فالمشكلة فيه _ بالنسبة إلى هذا الموضوع _ واحدة، والحل واحد والمصير واحد.
غير أني أضطر إلى أن أحدِّث القراء في هذا الصدد عن العالم العربي بالذات، لأن دعوة هائجة قامت في كثير من جوانبه تدعو إلى اتخاذ التدابير المختلفة للحد من نسله، وتنذر (العالم العربي) بالويل والثبور إن هو استسلم للدفع السكاني المتكاثر!.. فلا بد في معرض الرد عليهم من الحديث عن العالم العربي الذي هو محل البحث بيننا وبينهم. أما في واقع الأمر نفسه، فإن بلاء العالم العربي جزء لا يتجزء من بلاء العالم الإسلامي، داؤهما ودواؤهما واحد. إذ كان الإسلام هو الإطار الجامع لأشتات مقدسة كبرى فوق هذه الأرض، مهما اختلفت الخصائص الجزئية فيما بيننا.
وحسبك لتدرك أن الحديث عن الدعوة إلى تحديد النسل في عالمنا هذا إجرام سخيف، أن تعلم بأن كتاب الغرب، يفندون فيما بينهم وضمن محيطهم، آراء مالتوس وشيعته، وليحون في الدعوة إلى الاستكثار من النسل ورفع نسبة الكثافة السكانية عندهم، كما قد رأيت لدى مناقشتنا لهذه الدعوة، حتى إذا نصبوا منابرهم في اتجاه الشرق الأوسط، ونظروا إلى عالمنا العربي والإسلامي الفسيح، تغيّرت آراؤهم فجأة، وانعكس حديثهم عن هذه الدعوة، وأخذوا يحذرون العرب والمسلمين من استفحال النسل، ومما يسمونه بخطر الانفجار السكاني!
وما ينبغي أن يفوت كل داع حصيف حر في هذه الأمة، أن الغربيين إنما يبثون هذه الدعوة فيما بيننا، حذراً من أن يقود التفوق السكاني في منطقة الشرق الأوسط وسائر العالم الإسلامي، إلى تفوق في استخدام الآلة والعلوم، فيتحرر بذلك من سلطان الغرب، بل يمتلك زمام القيادة في إدارة دولاب اقتصادي وسياسي يقود المنطقة إلى سدة الريادة في العالم.
أجل إن الغربيين يخشون هذا، ويتصورنه ماثلاً أمامهم، وإن كانت أكثرية هذه الأمة ذاتها لا تتمتع من الطموح والآمال بما يضعها أمام هذا التطور وإمكان حصوله.
تقول مجلة (تايم) الأمريكية في عددها الصادر في 11 يناير 1961: (إن هذيان أمريكا وكل ما تبذل من النصائح والمواعظ عن مشكلة السكان، إنما هو نتيجة _إلى حد كبير_ لشعورها بتلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة على أساس زيادة السكان في هذه المناطق، بحيث يصبحون أغلبية في العالم).
ويفضح آرثر كورماك مقاصد الأوروبيين في إلحاحهم على المسلمين بضرورة تحديد النسل، فيقول بكل صراحة: (إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل، ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة، ولاسيما الأمم السوداء، إلى مزيد من الذل والخسف حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها).
إن أرض مصر تعد في مقدمة الأجزاء الزراعية من الوطن العربي، ولكنها الآن لم تبق زراعية محضة كما كانت، بل أصبحت مصر اليوم تعتمد على الصناعة. لاسيما بعد أن علم أهلها أن أرض مصر كما هي غنية في ظاهرها بأسباب الزرع والستنبات، غنية في باطنها بأسباب الصناعة وموادها، من بترول وفحم وحديد وغير ذلك.
ولقد رأينا اليوم الذي تصدّر فيه مصر من منتوجاتها الصناعية أكثر مما كانت تصدّره من منتوجاتها الزراعية. على أنها لا تزال في طور الابتداء والتأسيس. فإذا كانت مصر _وهي من أولى البقاع الزراعية في العامل العربي_ هذا شأنها، فما بالك ببقية البلاد العربية كالسودان والشمال الإفريقي والجزيرة العربية وأطرافها، وكلها مناطق مليئة بذخر الثروات الصناعية المختلفة؟!
لقد اعتمدت أوروبا، في نهضتها الصناعية، على أقل من هذا الذخر بكثير، بل اعتمدت في كثير من الأحيان على استيراد هذه المواد الأولية، كما صنعت سويسرا، وكان معتمدها الأول في ذلك ثروة السكان والأيدي العاملة، والخبرة التي لا تأتي إلا ثمرة الاختصاص والاصطفاء كما أوضحنا.
أليس عجيباً أن تركل الأمة العربية _مع ذلك كله_ هذه النعمة، فتستجيب لدعوة الماكرين من أعدائها، وتقلص النسل، وتلجأ إلى الانطواء، وتترك ذخر الثروة الصناعية التي تغلي بها أرضها كأنها المرجل، لتسيل نعمة إلى أرض غيرها؟
هذا كله، وإن طائفة اليهود في فلسطين، يزدادون كثافة إلى كثافة، ويستقبلون هجرة بعد هجرة، لا يشكون ضائقة، ولا يسترخون لنعيم. لأن ضخامة الأمل يدفعهم إلى الاقتحام ويتغلب على كل حلم بدائي رخيص.
المصدر: كتاب تحديد النسل للإمام الشهيد البوطي - موقع نسيم الشام /بتصرف/