الثبات – مقالات
مصادر التشريع الإسلامي (4/17)
فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري
تكلمنا في المقالة السابقة عن ضوابط نقل السنة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا أن من تلك الضوابط الاحتياط، والتوقف في قبول خبر الواحد، وعرض السنة على القرآن، وعرضها على السنة، وعرضها على القياس.
ثم ذكرنا شيئاً عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحلقة نكمل الحديث عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه، ونترجم لمن أكثر منهم من الرواية.
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرون ولم يكونوا رضى الله عنهم علي درجة واحدة من العلم بالسنة والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانوا متفاوتين؛ لأن منهم المتفرغ الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه في معظم أوقاته كأنس وأبى هريرة رضى الله عنهما، ومنهم من له مَاشِيَتُه في البادية أو تجارته في الأسواق، وفي ذلك يقول مسروق بن الأجدع التابعى الجليل جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يَرْوِى الرجل، والإخاذ يَرْوِى الرجلين، والإخاذ يَرْوِى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم. (والإخاذ هو بقايا ماء المطر)
وقد أُلِّفَ في الصحابة رضي الله عنهم كتب كثيرة تناولت أحوالهم وعلمهم، وحصر ابن الأثير في كتابه «أُسْد الغابة» وهو من أوسع ما ألف في الصحابة، نحو سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيًا، ويُذكر أن الرواة من الصحابة الذين بلغتنا مروياتُهم ألف وثمانمائة صحابي علي وجه التقريب.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم سبعة من الصحابة لكل منهم أكثر من ألف حديث، وأحد عشر صحابيًا لكل منهم أكثر من مائتى حديث، وواحد وعشرون صحابيًا لكل واحد منهم أكثر من مائة حديث، وأما أصحاب العشرات فكثيرون يقربون من المائة، وأما من له عشرة أحاديث أو أقل من ذلك فهم فوق المائة، وهناك نحو ثلاثمائة صحابي روى كل واحد منهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا.
وقد جمع بَقِىُّ بن مَخْلَدٍ القرطبى 276 في مسنده مرويات الصحابة وذكر عدد مسانيدهم إلا أنه لم يصلنا هذا المسند، ولكن وصلتنا أخباره وبعض ما فيه، وهذه الإحصائية السابقة ذَكَرَها أبو البقاء محمد بن خلف الأحمدى في كتابه البارع «الفصيح في شرح الجامع الصحيح» وهو مخطوط بدار الكتب نقلا عن مسند بَقِىِّ بن مَخْلَد.
ومع هذه الكثرة الكاثرة من الصحابة ومروياتهم إلا أنه قد أكثرت طائفة منهم رواية الحديث واشتهروا بذلك :
1-فمنهم الصحابي الجليل أبو هريرة (المتوفى سنة 59هـ) : وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسى اليماني، وقد اشتهر بكنيته حتى غلبت علي اسمه، وهو من أكثر الصحابة حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لكثرة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرأته في السؤال، وحبه للعلم، ومذاكرته لحديث الرسول الكريم في كل حين وفرصة، وقد روى له الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثة آلاف وتسعمائة وسبعة وخمسين حديثًا، وفيها مكرر كثير باللفظ والمعنى، وروى له الإمام بقى بن مخلد في مسنده خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا، وله في الصحيحين خمسمائة وسبعة عشر حديثًا، اتفقا علي ثلاثمائة وستة وعشرين حديثا وانفرد البخاري منها بثلاثة وتسعين حديثًا، ومسلم بثمانية وتسعين حديثا، وكانت وفاته بالمدينة؛ حيث دفن بالبقيع وصلي عليه أكابر الصحابة كابن عمر وأبى سعيد الخدري .
2-ومنهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (المتوفى سنة 73هـ): وقد اشتهر رضى الله عنهم بحرصه علي اتباع السنة والتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، وبلغت مروياته ألفين وستمائة وثلاثين حديثًا، أخرج له الشيخان البخاري ومسلم مائتين وثمانين حديثًا، اتفقا علي مائة وثمانية وستين حديثا وانفرد البخاري بواحد وثمانين حديثا ومسلم بواحد وثلاثين حديثا وكانت وفاته بمكة المكرمة.
3-ومنهم الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجى (المتوفى سنة 93 هـ)، وهبته أمه أم سُلَيْم بنت مِلْحَان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبله في خدمته، وأقام علي ذلك عشر سنين، فشاهد أنس ما لم يشاهد غيره، وبلغت مروياته ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثًا، وأخرج له الشيخان ثلاثمائة وثمانية عشر حديثًا، اتفقا علي مائة وثمانية وستين حديثًا منها، وانفرد البخاري بثمانين حديثًا، ومسلم بسبعين حديثًا، وكانت وفاته في البصرة، وهو آخر من توفي بالبصرة من الصحابة.
4- ومنهم الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري (المتوفى سنة 74 هـ)، وهو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجى، استشهد والده في غزوة أحد، فقاسى أبو سعيد شظف العيش، ويُرْوى أنه كان من أهل الصُّفَّة، ثم شهد معظم الغزوات، وكان يحضر حلقات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتحمل عنه الكثير حتى عُدَّ في المكثرين عنه، وبلغت مروياته ألفا ومائة وسبعين حديثًا، أخرج له منها الشيخان مائة وأحد عشر حديثًا، اتفقا علي ثلاثة وأربعين حديثا منها، وانفرد البخاري بستة عشر حديثًا، ومسلم باثنين وخمسين حديثا.
هذه كانت بعض التراجم لمن أكثر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الحديث الشريف، ولكن قد يقول قائل إن ما سبق من التفصيل بشأن الرواية الشفهية في عهد الصحابة رضوان الله عنهم فهل ثبت أن الصحابة دونوا الأحاديث في مدونات ونقلت مكتوبة من عصرهم إلى عصر من يلونهم ؟
من الثابت أن بعض الصحابة كانوا قد كتبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن خاص منه، كعبد الله بن عمرو -كما مر- ثم كتب غيرهم جانبًا من حديثه بعد إذنه صلى الله عليه وسلم بالكتابة إذنًا عامًا، غير أن معرفة كل ما تضمنته تلك الصحف لم يكن ميسورا؛ وذلك لأن بعض الصحابة كانوا يحرقون ما لديهم أو يغسلونها قبل وفاتهم، وبعضهم كان يوصى بما عنده لمن يثق به، وكانوا يفعلون ذلك خشية أن تئول تلك الصحف إلي غير أهل العلم. (يتبع).