عمارة الأعمار كيف تكون، وماذا يترتب عليها؟ .. العلامة الحبيب عمر ابن حفيظ

الأربعاء 07 تموز , 2021 11:08 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات – مقالات

 

عمارة الأعمار كيف تكون، وماذا يترتب عليها؟

العلامة الحبيب عمر ابن حفيظ

 

الحمد لله خلقَ السماواتِ والأرضَ وكان عليماً قديرا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، جامع الأولين والآخرين يومَ العرض عليه فَمُحَاسِبهم بما عملوا {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله أرسله الرحمن بشيراً ونذيراً {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدِنا محمدٍ القائمِ في محرابِ العبودية والشكرِ لك سِرَّاً وجهراً، والذي لا يُرَى إلا غاديَاً أو رائحاً؛ ليس له التفاتٌ إلى الرَّاحةِ ولا إلى التأخُّرِ عمَّا شرعتَه على يده وندبته إليه باطناً وظاهراً، اللهمَّ أدِم صلواتِك على الهادي إليك السراجِ المنير عبدِك المصطفى محمد وعلى آله المطهَّرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى مَن والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتِك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها، وبها تُعمَرُ الأعمار من ساعات وأيام وليالي وأسابيع وأشهر وأعوام.

ألا: وإنَّ أعمارَنا معاشرَ الأمة المحمدية أقصَرُ أعمارِ الأمم. ألا وإنَّ الخطرَ في الأعمار التي يقضيها المُكَلَّفون على ظهرِ الأرض قائمة -عندنا وعند الأمم مِن قبلنا- إلَّا أننا معشر الأمة المحمدية يُسِّر لنا مِن ربِّنا السبيل لأن نتداركَ ونُحسِن لرَّبِّنا العمارَة للأعمار.

وأعمارُنا القصيرة إذا عمرناها بالخير وما هو أولى بنا في عبوديتنا لربِّنا نسبق بها الأممَ أهلَ الأعمار الطويلة.. مما عُمِّرَ سبعمائة عام على ظهر الأرض، وممن عُمِّر ألفَ عام على ظهر الأرض.. وأكثر مِن ذلك؛ نسبقهم في أعمارِنا القصيرة إذا أحسنَّا عمارتَها وأحسنَّا التصرفَ فيها وصرفَها فيما يرضي الله، وجنَّبناها في ساعاتنا وأيامنا وليالينا موجباتِ الخِزي والندامة وسببَ الإهدار لنعمةِ العمر العزيزة التي لا تستطيع أن تأتيَ بها مِن عند غير ربِّك، والتي وهبها لك إلهُك لتتذكر وتشكر {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.

يَخلِف الليلُ النهارَ والنهارُ الليلَ بتدبيره وتقديره، لا يشاركه في ذلك مَلَكٌ ولا إنسيٌّ ولا جنيٌّ، لا فرد ولا جماعات ولا شركات ولا هيئات ولا حكومات.. كلهم يمشون تحت تقليب الليل ولنهار فمَن يقلبهما؟ كلهم يمشون تحت مضي الليل والنهار فمن يمضيهما؟ وهل تملك قوَّة على ظهر الأرض أن تُقَدَّم أو تُؤخَر؟

في هذا الكوكب الأرضي ما رتَّب المُكَوِّنُ والخالق الباريء جلَّ جلاله وتعالى في علاه {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}.

يا مغترِّين بما سمَّيتموه العلم: هل لكم قدرةٌ على تقديمٍ أو تأخيرٍ في الليل والنهار؟ على تغيرٍ لشيء منهما؟ على إطالةِ واحد في بُقَعٍ أقصرَه الله الخالق أو تقصير واحد منهما في بقعة أطالهُ الله فيها الإله الخالق.. بعلِمكم الذي تدَّعون؟ أتستطيعون أن تعملوا شيئاً من ذلك؟!

إنكم عاجزون وأنتم متكبرون، إنكم عاجزون وأنتم معاندون، متطاولون على الجبار الأعلى جلَّ جلاله. وجعل بُقَعاً في الأرض لا تأتي الشمس إليها إلا بعض أشهر العام.. مَن الذي رتَّب ذلك؟ وهل يستطيع أحدٌ مِن هؤلاء الخلقِ تغيرَ ذلك؟

فليعلموا أنهم خَلْقٌ مملوكون يجب أن يستسلموا للإله المالك، ويتركوا أصنامَ الأهواء وأصنامَ الشهوات، والأصنام التي مِن عبادتها طغَى بعضُهم على بعض، وأخذ بعضُهم حقَّ بعض، واعتدَى بعضُهم على بعض، وسُيِّرَت إمكانيات وقوى كبيرة لإضرارِ الناس بعضهم بعضا، ولتفريقِ جمعِ الناس، ولأخذ ثروات الناس إلى أنواعِ الشرور القائمةِ على ظهر الأرض.. لمَّا عبدُوا المال، ولمَّا عبدوا الأهواء، ولمَّا عبدوا الشهوات؛ ولمَّا أقاموا أصنامَ التكبر بغير حقٍّ -والعياذ بالله تعالى- انتهوا إلى هذا الأمر..

كم يرفعون مِن شعارات لا مجالَ لها في الواقع، ولا تحقيقَ لها في المسارِ والحركة؛ شعارات تُرفَع من حقوق إنسانٍ ومِن حريات ثم تُكبَّلُ الشعوب بأصنافِها بأكبالِ الأنظمة الجائرة -في الضرائب وغيرها- مما يَفرِضون ومما يُلعَبُ به على هؤلاء الشعوب.. ثم تُقَادُ عمليات القتلِ للأطفال! وللنساء وللأبرياء! تحت مظلَّات هذه الشعارات! شعارات التقدم والتطور! وحقوق الإنسان والحرية!

ما قُتِلَ الأطفال في زمن مضى كما قُتِلوا في هذا الزمن الذي يتبجَّح المتبجِّحون فيه مِن صُنَّاع القرار في العالم! يصنعون القرارَ ثم تكون هكذا الآثار! ثم يَغتَرُّ المُغتَرُّ بهم وينسى شرعَ الله! وينسى شرعَ ربِّه تعالى في علاه! ويتبع فكرةً جاءته مِن عند شرقيٍّ أو غربيٍ! لا يملك لنفسِه نفعاً ولا ضُرَّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا!

لكنها الفتنة تُعمِي وتُصِم! حتى صارت قُوَى الناس اليوم مُشَغَّلَةً لضربِ بعضِهم البعض، وإيذاءِ بعضِهم البعض، ولهدم كُلِّ ما يُبنَى من منافعَ وخيرات، وتحطيمِ البنية التحتيَّة -كما يَكثُر سماعكم لهذا الكلام..!

وصُنَّاع القرار في العالم يرعَون هذا؟ أو يحبون هذا؟ أو هم الفاعلون وراء هذا!

وأيُّ قرارات ستُصنع مِن عند مَن كفر بالخالق الذي خلقه! ولم يخَف مصيراً يَرجِعُ إليه! ماذا يُرجى من قراره؟ ماذا يتجنب مِن خداعٍ أو كذب أو غِشٍّ أو غِلٍّ؟

ولكنها الفتن أيها المؤمنون؛ حتى يعودَ الناسُ إلى حقيقةِ الدين ولأعمارِهم يعمرون؛ بالفقهِ في دين الله، بالعملِ بشرع الله. والله لا تُعمَرُ الأعمارُ بما ينادوننا إليه مِن السهرات الخليعة، والكلمات البذيئة، والأزياء الهابطة.. والله لا تُعمَرُ الأعمار بهذا، ولا يُكتَسَبُ من وراء ذلكم شرفا ولا عِزَّاً ولا راحةً ولا نعيماً في الدنيا ولا في الآخرة!

شغلونا بالمناظر الحرام، شغلونا بالأزياء الهابطة التي تهدم القيم، شغلونا ببغض بعضنا البعض، شغلونا بكراهةِ بعضنا البعض، شغلونا بتعظيم مصنوعاتهم، ولكن نحن كُنَّا رِخَاصَاً، مَن شغلَنا بأتفَهِ شيء اشتَغلنا به وصَفَّقنا وراءه! ولو استحكمَ الإيمانُ في قلوبنا وعمرنا الأعمار لأعزَّنا الله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ ولكن الأمر كما قال سيدنا عمرُ بن الخطاب عليه رضوان الله: "إنَّا قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام فإن ابتَغينا العزةَ في غيره أذلَّنا الله".

ابتغَوا العزةَ في غيرِ الإسلام.. فاقرأ سطورَ الذُّلِّ في مختلفِ صفحات الحياة لهذا ولهذا ولهذا.. يُلعَبُ بهم حتى تُعطَى المسؤوليات صورةً لا حقيقة لها؛ مقهورٌ صاحبها تحت نظام معيَّن وإملاءات من هنا وهناك، والشعوب تئن! والصبيان تُقتَل! والنساء تُرمَّل! والبُنَى التحتيَّة تُهد! والثروات تُنسَف! والأرواح تُزَهق!..

وهكذا جزاء من غَفِلَ عن الله ولم يعمر عمرَه بتقوى إلهه جلَّ جلاله.

 إنما تُعمَرُ الأعمار بالفقه في الدين، وبامتثال أوامرِ خالقِ السماوات والأرضين ربِّ العالمين. نظامُه فوقَ كل نظام، وحكمُه فوقَ كلِّ حكم، وأمرُه فوقَ كلِّ أمر لمَن آمنَ به جل جلاله.

ألا فحقِّق إيمانَك..

كفى بالله عِزَّاً لمن آمن به، فليُعَظِّم منهجَه شرعَه ودينَه ومِلَّته، وما أرسلَ به صفوتَه وخيرتَه ورسولَه المصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل