الثبات - مقالات
المرأة والعمل (1/2)
الشيخ المحدث نور الدين عتر
حق المرأة في العمل أو تسخير المرأة للعمل أمران يخلط فيهما كثير من الناس، ويحاول بعض الأدعياء أن يزخرف الثاني بالأول تضليلاً للرأي، وتسميماً للفكر، ينادون بحق المرأة في العمل، ويخفون من ورائه تسخير المرأة للعمل إرواءاً لنزعة بعض الرجال إلى الخمول، أو تلبية لرغبات خسيسة تحب التسلي في مختلف المجالات، وإنَّ كثير منهم يردد على الاسماع نغمات تطرب النفوس، وتخيل لها أنَّ من وراء القول شيئاً.
ثمَّة أناس يتغنون بترقية المرأة، ورفع مستواها، فهم يطلبونها أن تصبح مهندسة، أو محامية، أو طبيبة، أو صيدلانية؟! كي تتحقق بهذا الهدف الأسمى بالرقي، يموهون على أنفسهم وعلى الناس بعناوين أعمال ومهن تتمتع في نظرة المجتمع بامتياز خاص كأن احتراف تلك الأعمال هو نفسه الذي يرفع المستوى ويعلو بالإنسان...!!
وهذه هي الحقيقة وهم ناشئ عن ضخامة الهالات في مجتمع يسير في أول سلم الحضارة، يٌعَشي العيون عن الحقيقة الإنسانية الراسخة، إنَّ الحقيقة الراسخة هي أنه مهما تكن مهنة الإنسان من الأهمية والخطورة فإنها رقي همي، يضفي عليه حلة ورواء لا يتجاوز القشرة الظاهرة والطلاء الخادع.
كم من المهندسين أناس يجاملون أصحاب المشاريع العمرانية في مواد البناء، يعرضون بذلك أموال الناس وأرواحهم للخطر..؟! وكم من المحامين من يغدر بموكله بالتواطؤ مع خصمه، وكم منهم من يسخر نفسه لمغتصبي الحقوق أو المعتدين على النظام..!! وكم في الأطباء من لا يفي بحق الأمانة، وميثاق المهنة، لا تأخذه بالمريض الموجوع رأفة ولا رحمة!!
أفتشفع المهنة للمستخف بأرواح العالم وتجعله راقياً، أو ترفع المنتهب للأموال والحقوق من بؤرة تلك الأوبئة (اللا أخلاقية) الشنيعة إلى المستوى الطاهر الكريم؟!
إنَّ الرقي الحقيقي، والمستوى الرفيع إنما هو رقي الخلق. هو العفة، والصدق هو التفاني في سبيل الحق، وإسداء الخير للعالم، هو الترفع عن الدنايا والمظالم، وسفاسف الأمور، أما الذي يفقد ذلك فلن يكون له حظ من الرقي، ولا من الفضل، ولن يزيده كنز المال وضخامة المهنة إلا انحطاطاً وخطراً، إذ يكون ضرره أعظم، وإفساده أكبر...!!
وثمَّة أناس يترنمون بالمساهمة في بناء الاقتصاد، والمساهمة في إقامة الحضارة، والعامل الاقتصادي هذا أصبح حجة عظيمة، وبرهاناً قوياً، في هذا العصر الذي فتن الناس فيه بالمال، واتخذوه وثناً يعبد، حتى شقوا به، وسقطوا في مهاوي الهلاك...!!
لكن هذه الحجة لا تعدوا أن تكون تحريفاً للكلم وللحقائق التي يعيش فيها هذا الشعب، إن مشكلتنا الحقيقية في مجال الاقتصاد إنما هي الفقر وقلة المورد التي تهيء مستوى العيش الكريم للرجال والنساء على حد سواء، فأي علاج لا ينهض على أساس تلافي هذا الخلل، ورأب هذا الصدع، فلن يؤدي إلى نهضة اقتصادية، ولا لإقامة حضارة صحيحة.
إنَّ الاقتصاد اليوم أصبح يعتمد على الصناعة الآلية ولقد أفلح الانسان اليوم في تحسين الآلة حتى أصبحت الواحدة تقوم مقام عشرات أو مئات الأيدي العاملة، فقد وفر الله للناس كرامة نسائهم وبناتهم، وكفاهم بهذه الآلة ابتذال أعراضهم مهما أرادوا من الرقي الصناعي، ومهما بذلوا من الجهد لدعم الاقتصاد. بما وصلت إليه الآليات الحديثة من السرعة ووفرة الانتاج الهائلة... وإن كنا مقصرين في الإفادة من هذا التقدم العظيم.
قد يسأل سائل يقول: حقاً إن مزاولة المرأة للوظائف أو للأعمال الحرة لا يصلح أساساً لرقي المرأة، ولا يدعم الاقتصاد، فماذا تريد للمرأة؟ أتظل عاطلة بلا عمل؟ ومن الذي يقول أن الانسان خلق ليعطل قواه ومواهبه...؟
هذا سؤال جدير بالنَّظر والجواب، والواقع أن أحداً من أهل الإسلام لم يقل إن المرأة عضو من المجتمع، ولا بد أن تساهم في بنيانه ونهضته، إنَّ التخصص في الأعمال والمهن أرقى ما توصل إليه الإنسان واعتمده في هذا العصر، وقوام التخصص الموهبة الفطرية التي جبل عليها الإنسان، ثم الممارسة والمران الذي ينمي هذه الموهبة ويصقلها، هذا إنسان ذو عقل رياضي، ثاقب النظر في الربط والاستنباط فهو يصلح للهندسة والتخصص في علوم الرياضيات والفيزياء.
وهذا إنسان ذكي ماهر في التحليل والتركيب فهو يصلح للكيمياء أو للصيدلة أو نحوها... وهكذا... وهكذا....
والواقع أنَّ قانون التخصص ليس بدعاً في نظام الحياة، بل هو قانون فطري، فطر الله الحياة وأقامها عليه، وأمر عباده بإتباعه، والأخذ به، وحذرهم من الشيطان الذي يوسوس لهم كي يحيدوا عنه فقال تعالى حاكياً عن الشيطان قوله: {ولآمرَّنهم فَليٌغَيرَّن خلق الله}.
يتبع...