الثبات - مقالات
مصادر التشريع الإسلامي (3/17)
فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري
ذكرنا في المقالة السابقة شدة اعتناء الصحابة رضوان الله عليهم بوضع الضوابط لنقل السنة النبوية المشرفة، ورأينا كيف احتاطوا في ذلك، ورأينا كيف كان يتثبت سيدنا عمر بن الخطاب من خبر الواحد، ويبحث عمن يعضده.
ونكمل الكلام عن اعتناء الصحابة بالتثبت والاحتياط في نقل السنة بدقة بالغة، فقد ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يدلُّ على تثبته في الحديث، فعن بُسْر بن سعيد أنه قال: أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق، ثُمَّ غسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء: أكذاك؟ قالوا: نعم، لنفرٍ من أصحاب رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنده» [رواه أحمد في مسنده].
وكذلك التزم الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه ضابط التثبت من الأخبار عن طريق الاستحلاف فرويه عنه أنَّه قال: «قال كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته» [رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه والترمذي في سننه]. وكل ما رُوى عن الصحابة في ذلك الصدد اقتصر على التثبت والاستظهار في سبيل المحافظة علي السنة المطهرة.
1- ومن ضوابط النقل عند الصحابة سمة تسمى «اللقيا والسماع» وقد اشتهر صحيح البخاري بأنَّه هو الذي اشترط هذا الشرط في صحيحه مما جعل صحيحه أعلى كتب السُّنَّة توثيقاً وضبطاً.
إلا أنَّ الصحابة سبقوا البخاري في الاهتمام بهذا الشرط، ففي رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد دليل على ذلك، حيث كان بإمكانه أن يرسل له رسالة أو يحصل الحديث بأي شكل بغير لقاء، إلا أنهم اعتنوا باللقاء والسماع حتى يثبت النقل.
2- ومن الضوابط كذلك أنَّهم كانوا يعرضون الأحاديث على القرآن الكريم، ومن ذلك أنَّ بعض الصحابة رضي الله عنهم قد رد بعض الأحاديث؛ لأنَّها في نظرهم تخالف كتاب الله تعالى، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «إنَّ الميت يُعَذَّب ببكاء أهله عليه، وفهم رضي الله عنه أنَّه عام وأنَّ التعذيب بسبب بكاء الأهل علي الميت»، فأنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك الفهم، واحتجت بقوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام :164]
ومن ذلك ما روي: أنَّ عمر سمع حديث فاطمة بنت قيس أنَّ زوجها طلقها ثلاثًا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سكنى ولا نفقة. قال عمر: «لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق:1]» [رواه مسلم في صحيحه]
3- ومن الضوابط التي اعتنى بها الصحابة في نقل السنة النبوية، عرض السُّنَّة على السُّنَّة، وذلك فيما ظاهره التعارض بين الأحاديث، ما ورد في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيما يوجب الغسل، فذكروا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم» [رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه]، وكان قد احتج بعضهم بما روي عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّما الماء من الماء» [رواه مسلم].
4- ومنها كذلك عرض السنة على القياس، ومن ذلك ما روي عن أبي سلمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ، قال: فقال ابن عباس: «يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟» [رواه الترمذي].
فكلُّ هذه الضوابط التي اعتنى بها الصحابة في نقل السُّنَّة النبوية المشرفة إنَّما تشير إلى مدى اهتمام الصحابة رضى الله عنهم برواية الحديث والعناية به وصيانته.
5- وقد ينظر الناظر في كثرة كتب السُّنَّة، وكثرة عدد الأحاديث بها، ويسأل نفسه كم كان عدد أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذين رووا كل هذه الأحاديث؟ ولذا فمن تمام الفائدة أن نذكر عدد الصحابة رضوان الله عليهم، ونبين القول في ذلك، إلا أنَّ حصر الصحابة رضي الله عنهم بالعد والإحصاء متعذر؛ لتفرقهم في البلدان، ولأنَّهم كثرة بالغة، ومن حدهم من العلماء فإنه من باب التقريب.
ذكر كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك: والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان هذا.
وقد وردت بعض الروايات تذكر عدد الصحابة في بعض المشاهد والغزوات، فعن ابن عباس: «أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكَدِيدَ -وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد- أفطر وأفطروا وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع تسعون ألفاً من المسلمين» [رواه البخاري].
وسأل رجل أبا زرعة الرازي فقال له يا أبا زرعة أليس يقال حديث النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم أربعة آلاف حديث؟ قال: ومن قال ذا، قَلْقَلَ الله أنيابَه هذا قول الزنادقة، ومَنْ يُحْصِى حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قُبض رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفاً من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه، قيل: يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومَنْ بينهما، والأعراب، ومَنْ شهد معه حجة الوداع.