الثبات - مقالات
من تجلّيات (الله أكبر)
العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
من استشعر معنى (الله أكبر)، لن يخدع بألقاب مفخمة، ولا بوهم قوة أودعها الله بإنسان، لن يأسره جمال، ولن يفتنه مال، ولن تستفزه لمعة الدنيا وبهرجتها، ولن يخيفه أعتى عتاتها، ولن يغتر بأوهام .. بل سيعلق قلبه بالحي الباقي الذي لا ينام.
من فَقِه معنى (الله أكبر)، ثم وجد نفسه منسوباً بنسب العبودية إلى الله، يأبى الضَّعةَ والهوان، ولا يتملق لفلان أو فلان، بل سيمضي وهو يتيه فخراً بنسبته إلى الله عز وجل عبداً ولسان حاله يقول بكل فخر واعتزاز - كما علمنا الله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين}.
من استشعر شيئاً من معاني (الله أكبر)، سيدرك أن كلَّ تذلل وانكسار ذلٌّ ونقيصة إلا التذلل والانكسار على أعتاب الله عز وجل؛ فإنه عينُ الكمال، ومنبع الفخار، وأصل الهيبة والجلال.
من أيقن أن (الله أكبر) من كل شيء، أيقن أن كل ما في الكون وهمٌ أمام قدرةِ الله، وعظمةِ الله، وجمال الله، وجلال الله، وتدبير الله.
حقيقة لا يفقهها إلا من آمن بالله رباً، ثم أدرك شيئاً من معاني (الله أكبر)؛ تلك الكلمة التي نكررها - سواء مع المؤذن أو في صلاتنا - في اليوم أكثر من مائة مرة.
أما عندما تغدو هذه الكلمة شعاراً ميتاً لا قيمة له على اللسان، ولا تحرك ساكناً في الكيان، فإن القلب سيفرغ من مشاعر تعظيم الله عز وجل، وستطيش بوصلته، وتتخطفه الأهواء؛ سيتمسك بالفاني، ويعظم الحقير، ويفتن بالقليل، ويُستَغَل صاحب قلب هذا شأنه من قِبل الصغير والكبير.
وحدثني بربك إن كان الله معك فمن عليك؟! وإن كان عليك فمن ذا يقوى أن يكون معك؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك".
فكم من فرق بين أن يكون وليُّك - وقد ملأت عظمته كل ذرة من كيانك - مُقلِّب القلوب الذي بيده خزائن الأرض ومقاليد السماوات، وبيده تصريف الأملاك والمجرات، وبين أن تتخذ لنفسك من مخلوقاته وليّاً، لا يملك أن يجلب لنفسه نفعاً ولا أن يدفع ضراً.
واعلم أن من بات وقد تجلت على قلبه شيء من معاني (الله أكبر)، ستجده إنساناً متوازناً في مجتمعه، حكيماً في تصرفه؛ يضع كلَّ أمر في نصابه. يُنزل الناس منازلهم، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه: يُكرم كريم القومِ ويحترم كبيرهم لكن دون تبذُّلٍ ولا إسفاف، يعطف على صغيرهم ويشفق على عاصيهم لكن دون تعال ولا امتنان؛ لأن مشاعر عبوديته لله عز وجل انعكست قوةً في شخصيته، واعتزازاً بعبوديته، وحنكةً في تعامله، ورفعةً في شأنه، ورسوخاً في منهجه؛ أدرك أن الناس - غنيهم وفقيرهم، أميرهم وحقيرهم - عبيدٌ لله فقراء إلى رحمته، فمضى - في الظاهر - يتعامل مع الخلق، لكنه في الحقيقة يعامل الحق جل جلاله ويسعى لرضاه من خلالهم.
هكذا شأن المسلم، أو قُل: هكذا ينبغي أن يكون المسلم!.
وقد رُوي أن سيدنا عمر رضي الله عنه رأى شاباً يمشي رويداً، فقال له: ما بك .. أأنت مريض؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، فعلاه بالدرة، وأمره أن يمشي بقوة؛ لأن مشاعر العبودية تقتضي أن يكون المسلم قوياً في بنيته، عزيزاً بين أضرابه، إذ لا مكان للضعف في ديننا، ولا مكان للتصاغر أمام قوي لقوته، ولا غني لماله، ولا مسؤولاً لمنصبه.
أما من بات غريباً عمَّا تحمله (الله أكبر) من معنى، غافلاً عن عظمة الحق جل جلاله، فإنه سيغدو طامعاً بجيوب الخلق، أو طامحاً للوصول إلى مناصب الخلق، أو طالباً لثناء الخلق ومدحهم؛ اختار لنفسه أن يكون عبداً للخلق لا للخالق. وصدق سيدي ابن عطاء الله إذ يقول: "أنت حر مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت له طامع".
فانظر كيف يزري بنفسه المسكين عندما يتخذ من مخلوق مثله - لجاهه أو لمنصبه - وليّاً؛ يتقرب إليه ويتملق له لينال رضاه، وكيف يعز نفسه من مضى يشق طريقه في الحياة وعظمة الله ملء عينيه.