مقالات مختارة
يعكف الدارسون على تأريخ ما أنجزته الشعوب في مراحل متعدِّدة من تاريخها، وفي عدة مجالات، من السياسة إلى العمارة والزراعة والصناعة، ويضعون المقاييس الملائمة لتقييم هذه الإنجازات. وغالباً ما تشكّل هذه الحصيلة التاريخَ الرسمي الذي تتوارثه الأجيال، وتعمل على النقاش بشأنه وإغنائه. لكن المحفّز والمحرّك الحقيقيّّين لكلّ ما يتم تحقيقه، يبقيان غالباً في دائرة النسيان أو الظلّ، ونادراً ما يتمّ التطرّق إليهما، ربما بسبب صعوبة إدراكهما، وشِبهِ استحالة قياسهما، وبطء حركتهما خلال فترات زمنية معروفة ومشهودة.
لا شكَّ في أن المحفّز والمحرّك هذين، لكلّ ما تحققه الشعوب، هما درجة الوعي التي تتوصل إليها هذه الشعوب، والتي غالباً ما تكون نتيجة تراكمات طويلة الأمد، وتفاعلات محلية وإقليمية ودولية، تشمل معظم مناحي الحياة، وتعبّر عن خبرة الشعوب التاريخية، وتلاقُح هذه الخبرة مع المعطيات الجديدة. ولأن دورة الحياة قصيرة، فإن معظم المؤرخين يحاولون أن يجدوا تفسيراً للظواهر التي يعايشونها، من دون أن يتمكَّنوا من إعطاء مرحلة الإنضاج الأهميةَ التي تستحقّ، لأنها قد تتجاوز العمر المتاح لهم، ولا يتسنّى لهم أن يقرأوا مؤشِّراتها خلال حياتهم القصيرة.
وأتقن البعض استغلال هذا العامل الزمني، وإهمال اللامرئي منه، كي يُقنعوا بعضَ أولياء أمور الشعوب بأن يتوصَّلوا إلى صفقات مجحفة بحقهم وبحق شعوبهم، لأنهم لم يتمكنوا من الركون إلى ما قد تحمله الحِقَبُ المقبلة من ثمرات لمن يليهم من الأجيال. ونلاحظ، نحن كعرب، منذ حرب عام 1973 على الأقل إلى حدّ اليوم، أن العدو الصهيوني يستخدم مقولة "نفاد الوقت" وأهمية التوصل إلى "صفقة"، اليوم وليس غداً. وتمكَّن، من خلال الإلحاح على هذه المقولة الزائفة، من استجرار اتفاقات وصفقات مع حكّام عرب، ما كان ليحلم بها لو أن الطرف المقابل اعتمد النظرة الاستراتيجية للصراع، ولم يراهن على تحقيق ما اعتبره إنجازاً أو انتصاراً خلال حياته القصيرة. وأنا أتذكر جيداً، خلال عملية السلام في واشنطن، أن العبارة الذهبية التي كان يردّدها أعضاء وفد العدو، هي أنه "لا يوجد وقت"، وأننا متأخرون، ويجب أن "نسرع". وكان دائماً ردّ الرئيس حافظ الأسد، رحمه الله: "لماذا لا يوجد وقت. لدينا كل الوقت كي نحصل على حقوقنا كاملة، ولا يمكن لأحد أن يستعجلنا للتنازل عنها. وإذا لم نتوصل إلى ذلك، فسنسلّم الراية إلى الأجيال المقبلة، ونمضي".
هذا الرهان هو رهان على استمرار الإيمان بالقضية والحقوق، واستمرار الإيمان بأن الأجيال المقبلة لن تكون أقلّ انتماءً، أو أقلّ بذلاً وعطاءً من أجل استعادة الحقوق وتحرير الأرض من الاحتلال. وهذا الرهان مناقض لرهان السادات مثلاً، حين وقّع اتفاقية "سيناء 2"، ثم "كامب دافيد"، ظناً منه أن عليه أن ينجز السلام خلال حياته بغضّ النظر عن ماهية هذا السلام وانسجامه مع تحرير الأرض وإعادة الحقوق. وكذلك الأمر مع اتفاق "وادي عربة"، والأمر ذاته ينطبق على المنظور الذي أدى إلى اتفاق "أوسلو"، في الوقت الذي كانت المفاوضات في واشنطن تسير لمصلحة العرب، وكان الكيان الغاصب في مأزق حقيقي، فشكّل اتفاق "أوسلو" انفراجاً للعدو، إقليمياً ودولياً، وما زال يحصد نتائجه على حساب الحق العربي، إلى حدّ اليوم.
بالمقارنة مع هذا المسار، وحين بدأ ما سمّوه "الربيع العربي"، وجيّشوا له تمويلاً نفطياً سخياً، وتسليحاً للإرهابيين، وتدريباً مخابراتياً غربياً، ومكنة إعلامية هائلة تضلِّل البشر وتصيب الأبصار بغشاوة تجعل الرؤية شبه مستحيلة، انهارت إرادات واهتزّت معنويات، وفقد كثيرون الثقة بإمكان فعل أيّ شيء للوقوف في وجه هذا التسونامي المعادي للعرب وحقوقهم. لكنّ القراءة الاستراتيجية للأحداث، من جانب سورية وإيران والقوى المقاوِمة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، واجهت هذا التحدي بثبات في الأرض، واستعداد لتقديم التضحيات مهما بلغت، لأنها أقلّ ثمناً من الانكسار والانهزام أمام هذه العاصفة الإرهابية الغربية الهوجاء. وخلال 10 سنوات من الصمود، وانضمام الحلفاء الدوليين إلى هذه المعركة، والمتغيرات الدولية التي ضاقت ذرعاً بالقطب الواحد وهيمنته، وخصوصاً بعد وصول الصين إلى مرحلة إثبات وجودها كقطب لا يمكن تجاهله أبداً، بدأ الوعي، عربياً وإقليمياً ودولياً، يتحول، ويمتلك الثقة بالنفس، وإدراك أن عناصر القوة تتشكَّل لخوض المعركة الكبرى، وأن الهزيمة ليست قدراً على العرب، وأن الغرب والإرهاب لا يمكن لهما أن ينتصرا على إرادة الشعوب العربية وتصميمها.
تراكُمُ الخبرة في مقارعة الأعداء ودحر الإرهاب ورصّ الصفوف، بين أطراف محور المقاومة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن، ساهم مساهمة كبيرة في تشكُّل الوعي وتجذّره لدى دول المشرق، وتزامن ذلك مع مقاومة الصين وروسيا لهيمنة القطب الواحد، ومقاومة فنزويلا للإجراءات الأميركية والانتصار عليها. كل هذا رسّخ، يوماً بعد يوم، إيماناً في قلوب أبناء محور المقاومة بأن الثبات والتضحيات تؤتي أُكُلَها، ولو بعد حين.
وهكذا، بعد صمود سوريا، ورفضها كلَّ محاولات الابتزاز، وتقديمها التضحيات الجسام في الحرب ضد الإرهاب، شهدنا الهبّة الفلسطينية المباركة، والدور الذي أدّاه الجيل الشاب في الإقليم والشتات في كسر احتكار الغرب للصوت الإعلامي، والذي هو في غاية الأهمية لإيصال الحقيقة إلى أحرار العالم وكسب أصواتهم.
وها هي معركة الوعي تنتقل إلى الجزائر، حيث تسابق المرشحون للانتخابات التشريعية الجزائرية إلى التعبير عن مواقفهم الثابتة في دعم قضية فلسطين، وحق الشعب الفلسطيني في أرضه ودياره. ولا شك في أن العدوى مستمرة، وأنها ستصل إلى كل شعوب المنطقة والعالم، بغضّ النظر عما يرتئيه ويخطّط له بعض الحكّام.
بقي أن نرتقي بأدوات الدعم لتواكب مرحلة الوعي الجديد، من الأغنية المقاومة، إلى الموسيقى، إلى الأفلام، إلى المسرح والكتابة والتأريخ والترويج لكل ما له علاقة بالهوية الأصلية الحضارية لهذا المشرق العربي، منطلقين من ثقة أكيدة بأن الوعي بدأ في التشكُّل والنضج، وأن كل ما علينا هو أن نواصل المسيرة مع تحديث أدوات التفكير والاستراتيجية والمقاومة وتطويرها، والتنسيق مع قوى المشرق العربية الصاعدة، والتي تتَّبع مساراً مشابهاً لمسارنا المقاوِم للهيمنة الاستعمارية المبنية على نشر الحروب والإرهاب ونهب الثروات، مع الإيمان المطلق بأن الشرق في بداية مرحلة نهوض مستمر، وأن ما درجت عليه قوى الاستعمار والاحتلال الغربية الاستعمارية يتآكل ويندثر، يوماً بعد يوم، على أيدي القوى الحرّة في العالم، والتي ستصنع مستقبلاً عادلاً وملهماً للأجيال المقبلة.
د.بثينة شعبان ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً