أقلام الثبات
سادساً: في الدروس المستفادة على الدوام عندما تُخاض الحروب أو المواجهات العسكرية ، تكون هناك دروس مستفادة ، منها السياسية ومنها العسكرية والأمنية توجب التدقيق فيها . فالعدو الصهيوني ، في كل حروبه التي خاضها ضد المقاومة الفلسطينية ، وتحديداً منذ العام 2008 – 2009 و 2012 و 2014 ، حتى المواجهة الأخيرة ، كان يُمني نفسه وتاريخه الإجرامي ، عبر ما ارتكبه من مجازر ضد المدنيين الأبرياء، حاصداً أرواحهم ، لا سيما الأطفال والنساء منهم ، كان يمني نفسه سحق المقاومة والقضاء عليها . لكن المقاومة ورغم التضحيات الجسام ، والخسائر الكبيرة ، كانت تخرج منتصرة ، ويشتد ساعدها ، مع تطور قدراتها وإمكانياتها العسكرية التي تطورت بشكل مذهل .
وهذا ما شهدته المواجهة الأخيرة ، التي استمرت 11 يوما ، تمكنت فيه قوى المقاومة من إلحاق هزيمة نكراء بالكيان . ومن يتشكك من ذلك أدعوه لمتابعة الإعلام العبري بكل تنوعه ، وكذلك المحللين والمراقبين ، وتحديداً القادة الأمنيين والعسكريين السابقين في الكيان .
مما تقدم فأن الملحمة الفلسطينية الأخيرة ، تفترض بقوى المقاومة الفلسطينية ان تضع تلك الدروس موضع النقاش المُعمق فيما بينها ، لتشكل في مجموعها التراكمي سياقاً نحو تحقيق الانتصار الناجز . والمسؤولية هنا ليست مسؤولية أحادية الطرف ، طالما أنّ الصراع مفتوح مع الكيان ولم ينته بعد ، فنحن أمام جولات قادمة ، لأنّه في الأصل صراع وجودي مع الحركة الصهيونية وكيانها الغاصب لأرضنا الفلسطينية .
ونلخص في الدروس المستفادة الآتي :
- 1. العمل العسكري المقاوم ، من خلال غرفة العمليات المشتركة لقوى المقاومة ، كان من أهم إبداعات تلك المواجهة ( الملحمة ) . حيث التنسيق العالي في الميدان وما يفرضه من تكتيكات ، تمكنت قوى المقاومة من ممارسته بحرفية عالية ، أوقع الكيان بقادته العسكريين والأمنيين بحيرة وحالة من الذهول ، في قدرة المقاومة على تنفيذ وعيدها وتحذيرها بأنّ التمادي في الاعتداء على القدس ومقدساتها وأحيائها لن يمر . لذلك المطلوب تكريس وتطوير هذه التجربة الرائدة في العمل العسكري لقوى المقاومة في قطاع غزة ، وسد الثغرات إذا ما وجدت ، على ضوء التقويم بين مكونات غرفة العمليات الموحدة ، التي من المفترض أن تجريها بعد توقف المعارك .
2. الربط الذي أوجدته المقاومة بينها وبين ما تتعرض له القدس . ربط يجب أن يؤكد عليه من خلال ما تشهده غرف الاجتماعات واللقاءات التي تجريها الفصائل في القطاع مع الوفد الأمني المصري . وهذا يدفعنا للتنبيه من أنّ كثرة الحديث عن إعادة ما هدمته همجية الآلة العسكرية للكيان العدو ، أن تشكل محاولة للالتفاف على الربط والتشبيك الذي فرضته المواجهة ( الملحمة ) ، لصالح فك هذا الارتباط . وهذا ما يسعى إليه قادة الكيان .
3. وعلى مقلب لا يقل أهمية من موضوع القدس ، في كيفية المحافظة على ما شهدته المواجهة الأخيرة من تشبيك مع شعبنا وأهلنا في أراضينا المحتلة عام 1948 . وأنّ شعبنا هناك من غير المسموح الاستفراد به من قبل الكيان وما يتوعده لهم بسبب ما شهدته مدننا المحتلة في اللد ويافا وحيفا وعكا والناصرة وكفر كنا وغيرها، من حراك لنصرة القدس وقطاع غزة ، وتأييداً للمقاومة .
4. في غمرة الانتصار الذي حققته المقاومة ، يُفترض التنبه لجهة المحاولات المحمومة لإجهاض هذا الانتصار وتبديده في سياق من الوعود والضمانات الدولية والإقليمية الزائفة . في ضوء التجارب السابقة التي كانت الأطراف الدولية والإقليمية تعمل على وقف النار، وتسعى إلى فرض هدن طويلة الأمد . وتجربة مؤتمرين لإعادة الاعمار لا زالت ماثلة أمامنا. الأول في شرم الشيخ في آذار 2009، والذي تبرعت من خلاله الدول المشاركة آنذاك 2.5 مليار دولار كانت حبرا على ورق . والثاني في القاهرة في تشرين الثاني 2014 ، انتهى إلى ذات مصير المؤتمر الأول . وخطة روبرت سيري المنسق الخاص للأمم المتحدة، كانت واضحة لجهة الاعمار مقابل هدنة طويلة أقلها 5 سنوات .
5. ضرورة التنبه ألاّ يتحول قطاع غزة إلى ساحة صراع على النفوذ والاستحواذ لقوى إقليمية نافذة ومؤثرة ، بهدف احتواء قوى المقاومة ، وتحديداً حركة حماس التي تتصدر المشهد اليوم ، هي كذلك من خلال دورها وحضورها الفاعل . فهناك تعمد من قبل وسائل إعلامية معلومة الارتباط والأهداف ، للقول أنّ الحركة ، وكأنها وحدها في ميدان المواجهة من دون غيرها . وعليها أن تقتنص فرصة اهتمام البعض الدولي بفتح حوارٍ معها ، ومثالهم ألمانيا التي أبدت استعدادها الانفتاح على حماس . وبهذا المعنى ، إذا ما أرادت حماس أن يتم تقبلها دولياً ، لابد أن تحسّن من سلوكها ، وتحديداً السياسي ، وإبداء المرونة اللازمة في هذا السياق . وهي لن تكون بعيدة عن شروط الرباعية ، التي أدت إلى حصارها العام 2007 . والثاني ، يأتي في سياق ابتزاز للسلطة ورئيسها ، أنّ ثمة بدائل تلوح في ضوء نتائج المواجهة الأخيرة ، على الرغم من إبداء اهتمام أكثر من طرف دولي وإقليمي على دور السلطة في أية ترتيبات تتعلق بإعمار القطاع .
6. والأكثر أهمية ، هو في كيفية حماية هذا الانتصار من أنفسنا أولاً ، بمعنى حمايته من توجهات مغلوطة في الحسابات السياسية والوطنية . خصوصاً أنّ المواجهة الأخيرة كانت استفتاءً حقيقياً على ماهية الخيارات الواجب الذهاب إليها في سياق الصراع مع الكيان الصهيوني ، من خارج الرهان على سياق ورؤية سياسية مستندة إلى أية إمكانية إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية . وبهذا المعنى الحل قد تمّ تجربيه من قبل المنظمة عبر اتفاقات " أوسلو " ، التي بددت ما بددته من عناوين وحقوق وطنية للشعب الفلسطيني وقضيته التي لا حلّ لها إلاّ بالمقاومة وبكل أشكالها ، والمقاومة المسلحة أساس فيها .
7. المواجهة ( الملحمة ) أفرزت حقائق يجب توظيفها واستثمارها بشكل صحيح . أولها ، أنّ شعبنا واحد موحد أينما تواجد ، داخل الوطن المحتل أو في الشتات والمغتربات . هذه الوحدة التي عبرت عنها جموع شعبنا بشكل رائع ، من خلال التفافها حول قضيتها ومقاومتها ، واستعداد لتقديم كل يملك شعبنا في سبيل عزتها وكرامتها وانتصارها . وثانيها ، أنّ هناك إمكانية متاحة لتحقيق الانتصار على العدو الصهيوني ، وإن ليس بالضربة القاضية راهناً ، ولكن بالتراكم . لأنّ صورة الكيان الذي "لا يقهر " اليوم هي أنه يمكن أن يُهزم ويُدحر ،وهذا علينا تلمسه في تصريحات قادة كيان أنفسهم . وثالثها ، أنّ المقاومة الفلسطينية بمختلف قواها وكتائبها العسكرية ، أيقنت بما لا يدعو حتى لمجرد الشك ، أنّ خلفه وإلى جانبه محور بدوله وقواه يقف بكل ما أوتيّ من قوة وقدرة وإمكانية إلى جانبه ، ألى حد دخول المعركة إلى جانب المقاومة والشعب الفلسطيني ، إذا ما اقتضت الضرورة . وما ربط القدس بالحرب الإقليمية إلاّ في سياق وحدة محور المقاومة . أما رابعها ، الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم ، وقد أبدوا نصرة وتضامناً ووقوفاً إلى جانب المقاومة والقدس ، وما تعرض له القطاع من مجازر مهولة ، أسقطت زيف ادعاءات الكيان ، كاشفاً عن وجهه القبيح ، الذي لم يراع الحد الأدنى من حقوق الإنسان . على المقاومة وقواها إيلاء الاهتماما المتزايدا اتجاه تلك الشعوب ، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة في العلاقة مع الأنظمة .
لا شك أنّ هذه القراءة قد لا تكون مستوفية كامل أركانها ، وذلك بسبب أنّ صوت قرقعة السلاح ، ووقف النار قد توقف قبل مدة قصيرة . والأيام القادمة ستكشف وتتكشف معها الكثير مما لم تظهره الوقائع بعد . خصوصاً أنّ المسار السياسي لا زال في بداياته ، بما فيها حوارات القاهرة القادمة بين الفصائل ، والتي وعلى ضوء التجارب السابقة كانت مخيبة للآمال ، ومسيئة لنضالات وتضحيات أبناء شعبنا .