للفساد في لبنان أصول وجذور 3/3 ـ أحمد زين الدين

الخميس 29 نيسان , 2021 11:50 توقيت بيروت أقلام الثبات

وحش الهدر والفساد والمحاصصة انطلق بعد الطائف

أقلام الثبات

يبدو أن نظام ما بعد الطائف في لبنان، أكد على حقيقة واحدة هي أن البلد يجب أن يبقى تحت "وصاية" ما، تأمر طبقته السياسية وتسيرها وتصالح زعمائها وتوزع المغانم والمراكز عليها، فزمن القناصل يتجدد في كل مرة في أشكال مختلفة، وواصا باشا المتصرف على متصرفية جبل لبنان (1883-1892) يجب أن يكون له وجود في كل مرحلة، وهو الذي قال فيه الشاعر تامر الملاط حين مات:
"رنوا الفلوس على بلاط ضريحه     وأنا الكفيل لكم برد حياته"
وعن هذا المتصرف انتشر في حينه كاريكاتور يصور المتصرفية وكأنها بقرة يمسك واصا باشا بقرنيها، فيما يتفرغ أحد أقرب مساعديه بحلبها.
منذ بدء مسيرة الطائف، وتحديداً منذ العام 1992، بدأ "حلب" لبنان وأهله، وصار نهج الفساد غير محدود، فتحول إلى ما يشبه "بقرة واصا باشا" وتعمم الفساد ليصبح ما يشبه "ثقافة حياة"، في ظل انتشار جمعيات خيرية واجتماعية، كالفطر تحت اسم "المجتمع المدني"، يحظى قسم كبير منها بتمويل غربي وعربي، وبعضها بتمويل رسمي كثير منها على رأسها زوجات أو أبناء مسؤولين، وبالتالي فإن الفساد عم اجتماعياً، ليشمل شرائح واسعة من الناس، صار ينعكس على الشارع، انقساماً خطيراً، وبات لبنان مهدد فعلاً بوحدته الوطنية، ولهذا لا عجب أبداً أن يحتل لبنان المرتبة 138 من أصل 180 دولة، وفق "مؤشر مدركات الفساد لعام 2018".
كانت البداية في سلوك تعميم الرشاوى والنهب تحت عنوان حل مشكلة المهجرين، واتسعت جمعيات ما يسمى "المجتمع المدني" مع بدء النزوح السوري إلى لبنان.
فعلى مستوى مشكلة المهجرين وزعت في البداية مئات ملايين الدولارات على المهجرين وواضعي اليد على دور وبيوت وأراضي في وقت كان المهجرون من مختلف المناطق، قد تكيفوا مع أوضاعهم الجديدة، وتخلوا عن أنماط حياتهم ونشاطاتهم وعلاقاتهم السابقة، بعد أن دمرت أملاكهم أو ضاعت، وبعد أن تغير أنواع أعمالهم، وهنا، إذا كان الأهل تطلعوا للعودة إلى قراهم أو إلى أحيائهم السابقة في المدن التي كانوا فيها، إلا أن الفتية والشباب، اندمجوا في بيئاتهم الجديدة، التي لم يتوافر لها أي علاج بعد الطائف.
في نفس الوقت كان هناك وهم بحصول السلام مع العدو تحت ظل محادثات مدريد واتفاقات أوسلو، وأن الدين العام مهما تراكم سيمحى بعد السلام.
يروي أحمد طباره في كتابه "محطات" أنه في نيسان 1994 فوجئ في أحد أروقة المقر الرئاسي المؤقت في الرملة البيضاء، بالرئيس الشهيد رفيق الحريري يتجاذب الحديث مع فؤاد السنيورة بأنس وراحة وعلامات الارتياح بادية على وجهيهما، ويقول: "تابعت طريقي بعد أن ألقيت التحية حتى لا أقطع عليهما الحديث وحفاظاً على أدب التلاقي العرضي.
مررت إذاً وابتعدت عنهما بضعة أمتار وإذا بي أُفاجأ بالرئيس الشهيد يناديني "شو يا أحمد شو الأخبار".
وبعفوية وصدق ومحبة قلت له: والله يا دولة الرئيس أريد أن انقل لك ما قاله الي والدي قبل وفاته.
أجابني: خير إن شاء الله ماذا قال لك؟
أجبته: قال لي انتبه يا بني "اليهود بيحفروا بير بالإبرة بينما نحن العرب نتفاعل بمفهوم الصدمة نزعل لأي سبب ونُسترضى ببوسة لحى".
أجابني: ماذا تعني؟
قلت: يا دولة الرئيس من قال لك إن اسرائيل تريد السلام .. أتصدق أنهم أهل سلام؟ ألم ترَ ما فعلوا بما بنيته في كفرفالوس ... لا يا دولة الرئيس إن اسرائيل مجتمع حرب ... يعيش على الحرب، وهم مجموعة مرتزقة عملُها ضربنا كلما شممنا رائحة إبطنا ... رويداً رويداً يا دولة الرئيس، أتؤمن حقاً أنهم يريدون السلام...
نظر إليَّ بعينين فيهما تساؤل واستغراب ...
قناعة وتعجب .. تفهم واستفهام .. ألم ورفض ... قبول ومرارة ...
عندها سمحت لنفسي بالاستطراد فقلت:
وماذا إن افتعلوا حرباً وحطموا ما تقوم به .. أليس التروي بالاستدانة أنفع من تصديقهم؟
لم يجبني .. نظر إليَّ بعينين فيهما كل شيء .. نعم كل شيء وبدون ان يجب فتح باب الشرفة وخرج.
لم يبق أمامي إلا الأخ العزيز دولة الرئيس فؤاد السنيورة ... وبمفهوم الأخوة ومعرفتي به منذ الطفولة قلت له:
شو يا فؤاد .. وين منصير إذا ما في سلام؟
أجابني أطال الله عمره: "منفوت بالقزاز".
السلام طبعاً، لم ولن يحصل، فهل اقتنع السنيورة بأننا "فتنا بالقزاز".
سنة 1993، أعدَّ الحريري، بنفسه، لائحة بمشاريع قدر كلفتها للوهلة الأولى باثني عشر مليار دولار. ووعد بموازنة متوازنة لعام 1995، وبتسديد كل الديون الماضية والمتوقعة على الدولة في العام 2002. وعرض أمام البرلمان الخطوط العريضة للنص الكامل في "مخطط 2000"، الذي ليس له من المخطط سوى الاسم، ولم ينشر قط لأن الرأي العام سرعان ما أدرك لا واقعيته كي لا نقول حذره. ومع ذلك لم يتأخر إطلاق بعض المشاريع المقررة على هذا النحو مع مشاريع أخرى مرتجلة هنا وهناك، بما بلغت كلفته الاجمالية في حينه في تسعينيات القرن الماضي أكثر من عشرين مليار دولار.
ومع قيام حكومة الحريري استولت شركة سوليدير العقارية بمساهمها الرئيسي وسيدها المطلق رئيس الوزراء شخصياً، على وسط المدينة وفرضت نفسها فعلاً دولة في الدولة، فقد أعلن الرئيس المدير العام لهذه الشركة، المعين من قبل الحريري، مفتخراً ذات يوم: "لا أحد يستطيع شيئاً ضد سوليدير لأن سوليدير هي منذ الآن حزب بمئة وعشرين ألف عضو". ليس في الإمكان تعريف الاستراتيجيا المتبناة على نحو أفضل. إن وضع مصالح مئة وعشرين ألف مساهم مجتمعين في شركة ذات رأسمال يفوق ملياري دولار في خدمة المستقبل السياسي لرجل واحد، وتثبيت زعامته في العاصمة باللجوء إلى كل السلطات والعطايا، ولقد اتهم النائب السابق نجاح واكيم الرئيس الحريري بأنه، على سبيل المثال، "عوّض"، على النواب الذي ساندوه، بـ"السماح" لبعض المصارف بأن تقرضهم مبالغ هامة تسمح لهم بالمساهمة برأس مال سوليدير مع تأكيده الشخصي بأنهم سيحققون ربحاً ضخماً وسريعاً؟ وللصدف الغريبة لم يُصدر المصرف المركزي تعميماً على البنوك تمنع التسليفات من أجل شراء أسهم إلا بعد بضعة أيام فقط من أقفال الاكتتاب بأسهم سوليدير.
وبشكل عام إذا كان اللجوء إلى الدين الداخلي والخارجي يفرض نفسه، لكن شرط أن يخصص القسم الأكبر الممكن منه للأعمال الأكثر إلحاحاً، والاكثر إنتاجية، وأن تعدَّ لتسديد الدين، خطة واقعية يكون السعي جدياً إلى الالتزام بها. لكن ذلك لم يمنع، ومنذ 1992، من التورط بإنفاق غير محسوب العواقب، ويتجاوز كثيراً قدرات البلد المالية. وذهب وزير الدولة للشؤون المالية، فؤاد السنيورة، إلى أبعد من ذلك، حين أعلن أنه "لا يمكن للمصاريف الناجمة عن تمويل مشاريع الإنماء من طريق القروض بالعملة الصعبة، أن تندرج في الموازنة، لأنه يجب أن يكون هناك مسبقاً نظام محاسبة واحدة في الإدارة" (الأوريون - لوجور في 3 شباط 1997). وهو تصريح مذهل يصدر عن رجل يفترض فيه أنه يُحسن تحويل العملات الأجنبية إلى ليرات لبنانية، ويحسن تقدير مؤونة الفرق المحتمل للصرف ... إلا إذا كان، بطبيعة الحال، يتوقع انهياراً هاماً ومفاجئاً للعملة اللبنانية.
باختصار، ووفق دراسة أعدتها «الشركة الدولية للمعلومات» عن ابرز أبواب الهدر وكلفة كل منها على خزينة الدولة، تبين ان الكهرباء وقطاع التوظيف العام والاعتداء على الأملاك البحرية وايجارات الأبنية الحكومية هي مركز رئيسي للهدر والسرقة. ورغم ان هذه القطاعات هي المداميك الظاهرة في بنيان الفساد، غير ان ثمة مظاهر اخرى تتمثل بصفقات وسمسرات في قطاعي الاتصالات والكهرباء خصوصا، ما يجعل الوزارات المسؤولة عنها «وزارات دسمة». وهذه السمسرات يعرفها الجميع ولا يملك احد إثباتا عليها نظرا لتشابكها وتوزعها بين قوى السلطة. ووفق تقرير للبنك الدولي، فإن كلفة المحاصصة السياسية تتراوح ما بين 4 و5 مليارات دولار.
وتتعدد أبرز أبوب الهدر والفساد فإضافة إلى مؤسسة كهرباء لبنان والتكاليف الباهظة ثمة أمر آخر يعجز عن تبريره هو كلفة الإيجارات التي تدفعها الدولة سنويا والبالغة نحو 150 مليون دولار كبدل ايجار لأبنية تشغلها الوزارات والادارات والجامعات وتعود بمعظمها لنافذين سياسيين، في حين ان ايجار 3 سنوات يكفي لتشييد ابنية تفي بالغرض. علما ان الدولة تملك عقارات في بيروت (نحو 225 عقارا)، يمكن الاستفادة منها. فمبنى «الإسكوا» وسط بيروت تصل كلفة ايجاره السنوي الى 10 ملايين دولار وهو كلّف الدولة منذ تاريخ استئجاره عام 1997 حتى اليوم حوالي 170 مليون دولار.
وابرز مزاريب الهدر التي يمكن أن توفر مبالغ مهمة لخزينة الدولة فيما لو اجتمعت الإرادة السياسية على اقفالها هي المجالس والمؤسسات العامة التي أنشئت كـ«تنفيعات» لزعماء الطوائف مثل معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس (400 مليون ليرة)، ومصلحة سكك الحديد والنقل المشترك اللبنانية (13 مليار ليرة)، وإدارة البريد والبرق (6.8 مليارات ليرة)، الى جانب مجلس الجنوب، ومجلس الانماء والاعمار، والصندوق المركزي للمهجرين، وتكلف هذه المؤسسات نحو الفي مليار ليرة سنويا فيما من الممكن توفير 400 مليون دولار لو الغيت او ربطت بالوزارات المعنية، استنادا الى دراسة «الدولية للمعلومات».
وأباحت الحكومات المتعاقبة لنافذين ومقربين من أصحاب السلطة استثمار الأملاك البحرية لإنشاء منتجعات وفنادق تدر عليهم أرباحا طائلة. وعلى سبيل المثال يبلغ إيجار نادي الغولف اللبناني على عقار تابع للمديرية العامة للطيران المدني، في منطقة الغبيري جنوب بيروت، مساحته 225 ألف متر مربع، 1100 ليرة لبنانية فقط سنوياً، تبعاً للعقد المبرم مع الدولة اللبنانية منذ عام 1964.
هذا غيض من فيض الفساد والهدر يضاف إليه الرواتب الفلكية التي بحسب الباحث في «الدولية للمعلومات»، محمد شمس الدين، لا توجد أرقام دقيقة لحجم الهدر، ولو أن هناك تقديرات تتحدث عن أن كلفة الهدر والفساد تبلغ %10 من الناتج المحلي (نحو 4 مليارات دولار).
وفي دولة عاجزة كلبنان، تصل رواتب الـ158 مسؤولاً إلى 41 ملياراً و893 مليون ليرة (على أساس سعر الصرف 1500 ليرة لكل دولار). ويتقاضى النائب ما يساوي 285 مليون ليرة سنوياً (190 الف دولار). كما أن هناك سفراء في الخارج يتقاضون نحو 15 ألف دولار شهرياً! مع العلم ان هناك موظفين يتقاضون رواتب أعلى من رواتب الرؤساء، ويعملون في مصرف لبنان والكازينو وقطاع البترول ومجلس الإنماء والإعمار والمرفأ ومؤسسة أوجيرو وشركة «طيران الشرق الأوسط»، حتى إن بعضهم يعمل في مؤسسات متوقفة عن العمل كمديرية سكة الحديد.
ويبدو أن سيرة ما بعد الطائف قد وصلت بالبلد إلى الحضيض، بعد أن استولت المصارف على ودائع وجنى عمر اللبنانيين في تواطؤ خطير مع رياض سلامة المغطى من طبقة سياسية تأكل الأخضر واليابس.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل