مقالات مختارة
للدبلوماسية أصول معروفة وقواعد واضحة استند إليها العاملون في هذا الحقل لتكون لهم عوناً للوصول إلى أهدافهم. لكن العلاقات الدولية المعاصرة وضعت أمام الدبلوماسية تحدّيات ومسؤوليات عريضة وممتدّة على ساحة التفاعل الإنساني نظراً للتغيّر السريع والمذهل في مظاهر الحياة. فلم تعد مهام الدبلوماسي «نشاطاً بروتوكولياً» يُعنى بقواعد المجاملة والإجراءات التي تتصل بالعلاقات بين الدول، ولا هي خاصة بـ»جماعة الصفوة» حيث يختار أعضاؤها أن يعيشوا بمعزل عن بقية المجتمع محاطين بالأسوار، بل هي تسلك اليوم طريقاً جديداً باعتبارها فناً يحتاج إلى مهارات ومواهب فريدة وعلماً يتضمّن مناهج ومبادئ جادة، يشتمل على مساحة واسعة من الرصد والوصف والتفسير لما يكون من حالات وتوجّهات يهدف التعرّف عليها إلى تكوين أرضيات مشتركة للتفاهم الفعّال والإيجابي أو لتجنّب الصراعات أو بهدف الوصول إلى أفضل الاختيارات وتقديم أجود السياسات بالاعتماد على الفهم الواقعي للأحداث وبالاستعانة على قوة الخيال في التحرّر من القيود الصارمة التي تحصر حدود التفكير وتستعظم استلهام البدائل المستقبلية.
التبدّل الكبير الذي طرأ على الدبلوماسية نفسها وعمل الدبلوماسيين نجده بشكل بارز في أداء الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودبلوماسيّيها. فمنذ عام 1979 تواجه إيران نطاقاً واسعاً من الضغوط الدبلوماسية لتغيير سلوكها أو هدم نظامها في وقت يُثبت قائدها السيد علي الخامنئي أنها كانت نموذجاً من النماذج الفريدة في المقاومة السياسية والتعبئة المعنوية ما منع الأعداء من كسر إرادتها وفرض مشيئتهم عليها.
التجربة الدبلوماسية لهذا البلد هي بحق تجربة هائلة والدليل الأكبر على عمقها ونجاحها هي الحالة التي خرجت بها من معركة التفاوض الأضنى والأشدّ في تاريخ العلاقات الدولية، حيث لم تتمكن أميركا وحلفاؤها من فرض الشروط الإكراهية فيما اصطلح عليه بـ» الملف النووي». في الحقيقة لم تكن أميركا ومعها الدول التي تشاركها القيم والمصالح تواجه قوة نووية وإنما قوة ثورية. ثورية لا بالمعنى الأيديولوجي والعسكري والاقتصادي فحسب بل حتى بالمعنى الدبلوماسي حيث تجتمع عناصر الإيمان الديني والنضال المبدئي والعمل المبدع والعقلانية والخبرة والجودة والحسّ الفني والمهارة والشجاعة إلى جانب بعضها لـ «تعكس عظمة وعزة وقوة النظام الإسلامي وتنقلها لأقصى أنحاء العالم».
في هذه المقالة نقدم بعض الدعائم التي تنبني عليها هذه الدبلوماسية. وإذا كان تعبير «الثورية» يفرض في المقام الأول تراكم نوع من السلوكيات والممارسات، فيكفينا الإشارة هنا إلى ما طرحه الإمام الخامنئي الذي عايش الثورة كركن أصيل فيها منذ انطلاقتها وحتى هذه اللحظة من عمر الدولة واضعاً أهمّ محدّدات هذه الدبلوماسية والتي نوجزها بالأبعاد التالية:
أولاً: الحفاظ على التوجه الإسلامي عبر إظهار الإيمان الديني والالتزام بمعاييره من دون تردّد وخوف. بل إنّه يعتبر أنّ مصدر القوة كامن في هذا البعد الروحي المعنوي وليس بالاستناد إلى عوامل القوة الظاهرية كالمال والسلاح والثروة والعلم على أهميتها. مشدّداً على أنّ الروحيات الإسلامية والتمسك بالإسلام واللجوء إلى المبادئ الإسلامية هو الذي يجعل لإيران قدرة الوقوف «في وجه أكبر قوة في العالم وترفض كلامها وبجرأة». في حين يؤكد الخامنئي في توصياته للدبلوماسيين الإيرانيين على أشياء قد تبدو غريبة أو يمكنها أن تعيق بعض اللقاءات كالتشدّد في ضرورة رفض الجلوس على طاولة عليها خمور، وفي رفض لباس ربطات العنق كما هي عادة معظم الدبلوماسيين الرجال أو مصافحة النساء. فهو يحرّم بحسب الفتوى الشرعية مماشاة بعض الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية لأنها مخالفة للشرع حتى لو أدّت إلى حرج أو إشكالات. فهو يعتبر أنّ الصمود والمقاومة في مثل هذه المواقف «يرفع من شأنكم بنظر الطرف المقابل ويزيد من هيبتكم». وهو يوصي على سبيل المثال العاملين في الممثّليّات الدبلوماسية بالصلاة وحضور القلب في الصلاة و «قراءة القرآن كل يوم ولو حتى صفحة واحدة»، والاستفادة من الأدعية المأثورة وخاصة أدعية «الصحيفة السجّاديّة» التي «تقوّي الإنسان في الميادين كافة وتبعث في روحه وقلبه الإحساس الذي لا يجب أن يتزعزع أو يضعف». الخامنئي يوجّه كلامه إلى السفراء وعوائلهم ويدعوهم إلى «حفظ الالتزام بالمظاهر الإسلامية» ويطلب تحويل بيئة السفارة إلى «بيئة تديّن».
ثانياً: الحفاظ على العظمة الثورية: من خلال عدد من السياقات.
أ ـ إبراز الشجاعة في مواجهة غطرسة وتهديدات الأعداء والقوى العظمى، وعدم السماح لأيّ دولة التعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفوقية وضرورة إبداء الصرامة تجاه ذلك.
ب ـ سيادة العقل والمنطق على القرارات والتحركات الدبلوماسية.
ج ـ إظهار الأهداف السياسية بشكل واضح والتصريح بها بصوت عال.
د ـ إرساء فكرة رفض الهيمنة والخضوع ونظام السيد والرعية على مستوى العالم.
ه ـ الاستقلالية وعدم القبول بأيّ شكل من أشكال الضغوط في ما يتعلق بإقامة العلاقات أو الموافقة على قرارات ترتبط بتوجّهات وإجراءات تخالف مصلحة الإسلام والنظام.
و ـ إعلان العداء للدول غير الشرعية كالكيان الصهيوني أو المتطاولة والمعتدية كالولايات المتحدة الأميركية.
ز ـ توطيد العلاقات مع الدول الغربية بالاستناد إلى القوة والحجة من دون المساومة على القيم والمبادئ وبالانتباه إلى حيلهم الدبلوماسية.
ثالثاً: الدفاع عن هوية النظام الإسلامي في المحافل الدولية. وهذا يتطلّب من الدبلوماسيين معرفة موقع إيران الجيو – سياسي والاستراتيجي، وبأيّ اتجاه يجب التحرك. ولأنّ الدبلوماسية حرب، يوصي الخامنئي الدبلوماسيين أن يكونوا دوماً «في حالة مواجهة ومجاهدة وعمل»، وعدم التواضع تجاه القوى الدولية التي لا يرضيها إلا أن تتخلى إيران عن هويتها الإسلامية ومصادر قوّتها وعظمتها. وعدم الغفلة عن مخططات العدو وأطماعه لأنّ «من يغفل للحظة فإنّه سيتلقى الصفعة».
رابعاً: الالتزام بمبدأ «لا شرقية ولا غربية». فهذا المبدأ هو أصل وليس سياسة يمكنها أن تتغيّر وتتبدّل بحسب الظروف. ولهذا يوصي الخامنئي اعتباره «كبيت شعر يجب تكراره بشكل دائم». لأنّه الأساس في قوة السياسة الخارجية وعدم تبعيتها للقوى الكبرى في الشرق والغرب.
خامساً: تشكيل المجموعات الدولية وإيجاد العلاقات وتقويتها بناء على الفكر والعقيدة والنهج الإسلامي. الخامنئي يطلب من الجهاز الدبلوماسي توسعة الحضور في الخارج وصنع الأصدقاء وفتح الآفاق وتوفير الفرص. فهذا الجهاز تقع على عاتقه إيصال رسالة الجمهورية الإسلامية إلى العالم والتعريف بالثورة وأهدافها والوقوف كسدّ في وجه الهجمات.
سادساً: التوجه في العلاقات الندّية السليمة نحو آسيا، أيّ إلى الشرق. من دون فك الارتباط الكلي مع الغرب.
سابعاً: كسر حاجز التهميش الدولي في العلاقة مع الدول الأفريقية والتوجّه إلى تلك الدول إن لم يكن من البوابة السياسية فليكن من البوابة الاقتصادية لتعزيز الارتباط العاطفي معها ما يعطي العلاقات الدولية رونقاً آخر تحضر فيه حتى تلك الدول الهامشية والفقيرة.
هذه المحدّدات تعطي صورة عما ترغب به إيران من إعادة صياغة العلاقات الدولية. والدبلوماسية الثورية التي اعتمدتها في استراتيجياتها كانت بدواعي زرع مفاهيم تركّز على حلّ المشاكل بين الدول بالحوار والطرق السلمية الإيجابية والامتناع عن كلّ أشكال المفاوضات الصفرية وتجنّب حالات سوء الفهم وكلّ ما يعمّق الصراعات دون مبرّر أخلاقي ومسوّغ إنساني. وفي المقابل رفض كلّ أساليب الهيمنة والظلم والإقصاء وشتى أنواع العقوبات التي تريد جعل الطرف الضعيف يخسر كلّ شيء. نجحت إيران خلال الأعوام الأربعين الماضية باختراق الميادين الدولية ونسج علاقات وشراكات مع دول عديدة رغم سياسات التشويه والتدمير التي مورست من قبل أميركا ودول مختلفة في العالم. واستطاعت أن تُبرز نموذجاً في السياسة الخارجية تعتمد التوفيق في إقامة «العلاقات السليمة والمنطقية التي تحفظ الحرمة الثورية للشعب»، وفي الوقت نفسه تدافع عن الشعوب والحركات الثورية في العالم. وبعد كلّ هذه الجهود لم تعد إيران بفضل دبلوماسيتها النشطة والفّعالة وتجربة دبلوماسييها وكفاءاتهم جزيرةً معزولة في هذا العالم. إيران اليوم بشعاراتها وبالراية الثورية التي ترفعها مصدر تأثير على مساحة كبيرة خارج حدودها. لم تبد التراخي والليونة في مواقفها التفاوضية ولم تُظهر الضعف والتساهل حول مصالحها الاقتصادية والعسكرية وحوّلت التهديدات إلى فرص وخلقت ديناميات جديدة ستترك أثرها الكبير بلا شك على صعيد التحاور البناء والالتزام بالعهود وإدارة الأزمات وفض النزاعات بين الدول.
بعد التفاوض حول الملف النووي الذي دام لأكثر من عقد من الزمن وظفت فيه أميركا وحلفاؤها كلّ الاستراتيجيات التفاوضية لإخضاع إيران، ها هي إيران بفعل دبلوماسيتها الذكية والصلبة قد تمكنت من الخروج من الصعوبات التي تسببت فيها العقوبات وفي المقابل تواصل خياراتها الاستراتيجية الإقليمية والصاروخية والنووية، واستطاعت كذلك اختراق جدار العزلة الدولية بشراكة واسعة مع الصين تمتد لربع قرن من الزمن وتتحضر لعقد اتفاقية مماثلة مع روسيا لتستكمل تحصين جبهتها وامتداداتها الاستراتيجية وصدارتها الإقليمية. الدبلوماسية الإيرانية أثبتت أنّ تحدي الهيمنة الأميركية والأوروبية ليس مستحيلاً وأنّ بالإمكان خلق شبكة من التوافقات الدولية لا تعيد التوازن إلى الحياة الدولية فحسب بل تدفع باتجاه خلق ثقافة وحضارة جديدة وسياق جديد من السياسات قادر على النظر إلى السلام من خلال مراعاة القوانين العادلة وقواعد التعاون بين الشعوب لا من خلال دخان الحرب ونارها كما يقول كيسنجر!
د.صادق النابلسي ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً