أقلام الثبات
ليست جديدة ولا مستغربة حملات الشيطنة والتخوين في الحياة السياسية اللبنانية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأفول عهد رئاسي وسعي مسترئس للحلول محله. فهي رافقت العهود اللبنانية منذ الإستقلال وحتى الساعة. وكلما قررت شخصية مارونية تبوء مقعد الرئاسة الأولى في الجمهورية، كان لبنان يعيش أجواء حرب سياسية شعواء، وصلت أحياناً إلى حدود إشعال النار في البلاد؛ والتقاطع مع السياسات والمصالح الإقليمية والدولية، بما يدخل لبنان في أتون لهيب، تخلله أحياناً إستدعاء قوات أجنبية. ولم يخرج لبنان من تلك المغامرات، إلا وقد دفع شعبه أثماناً باهظة.
وتشهد محطات الإنتخابات الرئاسية منذ إنشاء الكيان اللبناني على ذلك، خصوصاً بعد الحقبة الإستقلالية. والصراع الفعلي كان دائماً على الرئاسة الأولى، لأنها كانت تمسك بكل الصلاحيات؛ وكان الحكم قبل الطائف، كما كان يسميه الراحل كمال جنبلاط: ضابط ماروني ورقيب سني والباقي عسكر.
قبل الإستقلال كان المسترئسون يتوزعون الولاء بين فرنسا وإنكلترا. وكانت الكفة تميل بالطبع لصالح من يتبع السياسة الفرنسية، كون فرنسا هي الدولة المنتدبة على لبنان. ولها فيه السلطة والجيوش والأمن وكل مفاتيح القرار.
أما بعد الإستقلال فقد إختلف الحال، إذ أصبح للحراك الداخلي دور في قيادة معركة إسقاط عهد وتنصيب عهد آخر، مع الإستقواء بالطبع بالخارج الإقليمي والدولي.
هذا التصارع على منصب رئاسة الجمهورية، حوّل بشارة الخوري من "بطل للإستقلال"، إلى رئيس مزرعة يعيث شقيقه سليم فيها فساداً. لذا جرت تسميته ب"السلطان سليم". وكان لطموح كميل شمعون الرئاسي دورأً في إنشاء تحالف، جمعه وشريكه اللدود كمال جنبلاط وعدد من الشخصيات بينها غسان تويني، الذي كان عميداً سابقاً للطلبة في الحزب السوري القومي الاجتماعي.
كان شمعون يسمى "فتى العروبة الأغر". وهو عملياً كان فتى الإنكليز الأغر، لآنه كان ضمن محور إنكليزي ضمه وملك الأردن حسين ورئيس وزراء العراق نوري السعيد والحزب القومي السوري، الذي قاتل معه ضد ثورة 1958. وقد تمت شيطنة عهد بشارة الخوري ووصم بالفساد. وإختتم ب"ثورة" بيضاء، قادها التحالف المذكور، منعته من إكمال فترة رئاسته الثانية في منتصفها.
والكأس الذي سقى منه شمعون سلفه الخوري، شربه عندما قرر الإنضمام إلى حلف بغداد؛ وسعى للتجديد لولاية ثانية. فرد عليه خصومه وبينهم مسترئسون، أبرزهم حميد فرنجية، بالتحالف مع مصر جمال عبد الناصر، الذي كانت رياح مشروعه القومي تجتاح المنطقة العربية، حاملة معها شعارات التحرر من الإستعمار والتبعية؛ وتطبيق الإشتراكية والعمل على تحقيق الوحدة العربية، فاقامت أول وحدة عربية في العصر الحديث بين مصر وسورية، تحت إسم الجمهورية العربية المتحدة. وكل ذلك يتناقض تماماً مع سياسة المحور الذي إنتمى إليه شمعون. وكان من نتيجة الصراع العسكري الذي تفجر بين المحورين، أن شمعون إستدعى تدخل قوات "المارينز" الأميركية، التي نزلت في مرفأ بيروت وعسكرت في حرج العاصمة.
حتى الرئيس اللواء فؤاد شهاب، الذي خلف شمعون، لم يسلم من نيران من أسماهم "أكلة الجبنة" وهم طبقة الفساد والنهب المحتمية بالطائفية وحصص الطوائف. وتشكل حلف ضده وضد الشهابية هو الحلف الثلاثي المعروف، عارض عهد خلفه شارل الحلو؛ وتمكن من إيصال سليمان فرنجية إلى الرئاسة الأولى بعده. وجرى على إثرها الإنقلاب على الشهابية. وطورد رجال الجنرال شهاب وشردوا في بلاد الله الواسعة.
وأدى هذا التطرف في الإنقضاض على الشهابية، إلى إطلاق أيدي المتطرفين واحلامهم في الإمساك بالسلطة وتنفيذ مشاريعهم الإلغائية، فكان سعي بشير الجميل للوصول إلى الرئاسة، عن طريق إشعال حرب أهلية تحت شعار تحرير لبنان من السوريين والفلسطينيين. لكن هذا التحرير المزمع، كان يستند إلى تحالف بين حزب الجميل (الكتائب) وبين العدو الصهيوني، الذي اجتاح لبنان عام 1982، تحت ذات الشعارات الكتائبية وهي محاربة المقاومة الفلسطينية. لكن الذي حصل أن الدبابات "الإسرائيلية" تولت حراسة عملية إنتخاب بشير في المدرسة الحربية. وكان وجودها العامل الأول في هذا الإنتخاب، على الرغم من العداوات الدموية التي وصمت علاقات بشير بالقوى المسيحية الأساسية، التي تقودها زعامات مثل كميل شمعون وسليمان فرنجية وريمون إده وغيرهم.
وحده الياس سركيس لم يشتبك مع المرشح الأول لخلافته، بل سهل لبشير الجميل مهمته وتعاون معه.
وعندما جرى إغتيال بشير قبل تنصيبه رئيساً، إنتخب شقيقه أمين خلفاً له، فحاول إكمال مشروع شقيقه بإبرام إتفاق 17 أيار مع العدو الصهيوني، مما أشعل حرباً داخلية لم تهدأ إلا بإنتهاء عهده، تخللها إستدعاؤه للقوات المتعددة الجنسية. وكان أبرزها قوات "المارينز" الأميركية وقوات فرنسية، ما لبثت أن خرجت بشكل مذل من لبنان، بعدما تعرضت مراكز قيادتها للتفجير بواسطة إستشهاديين، أوقعوا في صفوفها عشرات القتلى ومئات الجرحى.
ويسجل لفترة الوجود السوري في لبنان، أنها أوقفت هذا الصراع وهذا التنازع بين الأقطاب الموارنة. لكن ذلك أوجد إحباطاً مسيحياً، قاطع الإنتخابات العامة في ذلك الوقت. وشهدت تلك المرحلة عهدي الياس الهراوي والعماد إميل لحود. لكن التصارع والشيطنة عادا في أواخر عهد لحود، إثر الخروج السوري من لبنان. فعاد التدخل الخارجي في تنصيب الرؤساء، حيث قرر مؤتمر الدوحة، الذي عقد في العاصمة القطرية، إيصال قائد الجيش حينها، العماد ميشال سليمان إلى كرسي الرئاسة. وعندما إصطدمت إرادة اكثرية المسيحيين، المدعومة من شريحة واسعة من اللبنانيين، مع الإرادات الخارجية، في إختيار خلف لسليمان، تعطل الإنتخاب لأكثر من سنتين، تغلبت في النهاية إرادة إيصال رئيس لأول مرة يمثل أكبر كتلة شعبية ونيابية مسيحية، هو العماد ميشال عون. والمعركة تدور هذه الأيام وإن تقاطعت مع المصالح والمشاريع الإقليمية والدولية، حول من يخلف عون، حيث نقل سمير جعجع البندقية من الكتف "الإسرائيلي" إلى الكتف السعودي، تحت مظلة التبعية للاميركي في الحالتين، على أمل أن يتيح له ذلك الوصول إلى الرئاسة الأولى. ولعل المخرج الذي ينقذ لبنان من حرب أهلية قادمة، هو تبديل آلية إنتخاب رئيس الجمهورية، ليصبح إستفتاءً شعبياً تتعطل معه أساليب التدخل الخارجي، فالمسترئسون كما أكدت الأحداث، مستعدون لإحراق البلد مقابل الحصول على كرسي بعبدا. وما نراه من أعمال سمير جعجع وسامي الجميل بحق ميشال عون يثبت هذه الخلاصة.