مقالات مختارة
كنت في سنتي الجامعيّة الثالثة في كليّة الحقوق، وفي سنتي الثانية في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وفي عز مرحلة الحماس لتكسير كل الأسوار الطائفية والطبقية والانعزالية، من أي نوع كانت، حين قرأت أنّ مدارس "المقاصد" الإسلامية تطلب مدرّسة لغة فرنسية بدوام جزئي، وهو ما كنت أقوم به في مدرسة مخيم جسر الباشا.
قدمت طلبي، وضحك الجميع مني: هل تصدقين أن "المقاصد" ستختار مارونية لتكون أول مدرّسة مسيحية في صفوفها!؟ وتم اختياري. كان ذلك قرار المرحوم شفيق الوزان. وقد طرت فرحاً، من كسر الحاجز الإقليمي إلى كسر الحاجز الطائفي.
كانت أيام الحلم الكبير، وكنا صغاراً نعيشه بيقين التحقّق. بين "المقاصد" وأجوائها، وخصوصاً "اتحاد طلاب المقاصد"، وكلية الحقوق وأجوائها، والعمل الحزبي، وارتباط كل ذلك بالعمل الفلسطيني. كنت أسمع بـ "مازن"؛ النموذج النشط وصاحب القدرة التنظيمية الكبيرة. كنا نعرف أن معظم الأسماء حركية، ولكننا لم نكن نأبه بمعرفة من وراءها. المهم هو الأفق الذي يكمن أمامها.
كانت عصبيّاتنا الحزبية موجودة وقوية، يعزّزها الشباب المبكر، ولكن بوصلتنا القومية والوطنية كانت واضحة وأقوى من كل العصبيات. لذلك، هلّلنا لانتخابات نجاح واكيم الّذي هزم نسيم مجدلاني في دائرته؛ الشاب الجبيلي المسيحي الذي كان قد تخرج للتو من جامعة بيروت العربية، والذي طرح نفسه مرشح الحزب أو التيار السياسي (الناصرية) والشباب، ومن دون أي تمويل، فهزم الزعامة التقليدية والطائفية في عقر دارها. ومثله كان اختراق زاهر الخطيب في الشوف. (أصبح الاثنان النائبين الوحيدين اللذين تجرّآ على التصويت ضد اتفاقية 17 أيار المذلّة مع العدو الإسرائيلي).
في هذه المعركة، التقيت أنيس النقاش، ولم أعرف أنه مازن. عرفت أنه مناضل في صفوف الاتحاد وفي "فتح"، وأنه قريب من أبو جهاد. شعرت بالاهتمام عندما قيل لي في الحزب إنه ابن شقيق الدكتور زكي النقاش؛ الرجل الذي كان مع أنطون سعادة في مرحلة التأسيس، ثم ابتعد ليصبح مقاصدياً قومياً إسلامياً متميزاً بجديته وجرأته.
بعدها، سمعنا الكثير عن أنيس. كان فتحاوياً بامتياز، ولكن اسمه التصق في فترة ما بالجبهة الشعبية، وتحديداً بالشهيدين كمال خير بيك ووديع حداد، لتأتي الصدمة بعد 40 سنة في اعترافاته خلال حوار مع صديقه صخر أبو فخر، وحوار تلفزيوني آخر، بأنه لم يذهب إلى الجبهة، وإلى كمال، وإلى وديع حداد، إلا بأمر من أبو جهاد، ليطلعه على كل ما كان يخطط له حداد، ومن ثم ليمنع ما كان يرفضه أبو جهاد.
وعليه، روى بالتفصيل دوره في إفشال عملية فيينا. لماذا؟ لأن الجبهة كانت ترى أنّ هذا النوع من العمليات الخارجية هو الذي يصدم الرأي العام الدولي، ويقول له إن الشعب الفلسطيني موجود، وفلسطين ليست أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض. في حين أن "فتح"، وهو منها، وأبو جهاد رجلها الثاني، كانت تعتقد أن بعض العمليات يسيء إلى أمن المقاومة الفلسطينية وصورتها، وأن الاغتيالات، وخصوصاً الدبلوماسية، ليست أسلوباً مفيداً لمقاومة تريد كسب الرأي العام العربي والدولي. كان أنيس يخاطر بنفسه لتنفيذ هذه الرؤى. امتثالاً أم قناعة؟
في الحالين، كان مقاتلاً، أما على الأرض، فكان خيار تشكيل خلايا مقاومة هو المحتوم، والذي لا خلاف حوله. وعليه، كان أنيس أول من عمل على ذلك في جنوب لبنان بعد التنظيم السري في بيروت.
لم أره منذ تلك الفترة في بيروت وحتى أواخر التسعينات. اعتقدت أنه لن يخرج من السجن المؤبد (وفي جلسة استراحة في دمشق، عام 2015 حكى لي بطرافة كيف وضع استراتيجيته في السجن كي لا ينساه أحد، وكي لا يكون ضحية تحسن العلاقات الفرنسية الإيرانية أيام ميتران). وخرج.. ليبقى المناضل المتروك جورج إبراهيم عبد الله.
في عام 2002، التقينا في الطائرة من بيروت إلى الدوحة. لم نتبادل كلمة واحدة. كان العراق المحاصر جداراً بيننا. تكررت صدفة لقاءاتنا في الدوحة لبرامج "الجزيرة"، إلى أن افتتحنا النقاش بصراحة في جلسة فطور. فوجئت بتقبله الجدل القاسي. لم أنكر أن الحرب العراقية الإيرانية هي افتعال أميركي غربي. كنت قد ترجمت مئات الوثائق التي تثبت ذلك (وخصوصاً يوميات الإليزيه في عهد ميتران، وفيها كيف كان المسؤولون الغربيون يرتبون لاستمرار الحرب إلى أن ينهَك الطرفان)، ولكنني لم أتقبل أن يترك العراق لحصاره وللمؤامرة الواضحة، فهو الجدار الاستنادي للأمة، وأنا التي غطيت، حضوراً ميدانياً ودراسة ومتابعة وترجمة، كل شاردة وواردة حوله منذ 1980 وحتى شهرين قبل احتلال 2003.
اختلفنا كثيراً، ولكننا اتفقنا على ما يخص فلسطين. كان هذا الرجل مؤمناً بتفاؤل غريب بأن فلسطين قضية لا يمكن أن تشطب. وبطريقة أو بأخرى، ستتفجر دائماً مفاجآت تعيدها إلى حقها. ما لم يقله بصراحة أنه يعتبر أن الأساليب المجربة فشلت ولا بدَّ من جديد. سألته بصدق: هل البحث عن البديل هو ما دفعك ومنير شفيق إلى الخيار الإسلامي؟ ابتسم بمكر، وقال: ربما نعم، وربما لا.
نتيجة علاقاته، كان يقال مرة إنه تأثر بأنطون سعادة، ومرة بماو تسي تونغ، وخصوصاً مع قربه من منير شفيق، ومرة بماركس ولينين، وحتى بميشال عفلق، إلى أن اعترف بأنه قرأهم جميعاً وتعلم منهم جميعاً، ولكن معلميه الحقيقيين هم مسؤولوه في المقاومة الميدانية مذ كان صبياً في الخامسة عشرة من عمره وحتى الشيب. ولنقل، المقاومة الأمنية، لأن معظم مهامه كانت في هذا المجال، سواء كانت دبلوماسية حوارية أو ميدانية خطرة. وكما اعترف، كانت أول دوراته في مصر، ولا ندري ما بعدها.
في دمشق، التقينا مراراً، وعملنا في كتاب مشترك. واجهته بذلك، واعترف لي بأن أحداث سوريا غيرت الكثير لدى الجميع وبلورت الكثير. حدثني عن المشرقية، فقلت له: مبدئياً، المحور شيء والأمة شيء، وإذا اختلطا، خرب كل شيء، ثم إن المشكلة لا تكمن فقط في الجغرافيا. ما لم تذب الهويات الفرعية، الطائفية والعرقية، فالجغرافيا توسع ساحة الصراع فحسب. فاجأني بالموافقة. كان يعتبر سوريا قضية حياة أو موت، قال لي: ستنتهي فلسطين إن انتهت سوريا. قلت له: أتذكر جان بيير شفينمان عندما كتب في العام 1991 عن خطة أميركية للبننة العراق. الآن، يجب ألا نسمح بعرقنة سوريا. هذا هو الأهم. هذا وحده رهان بقاء أو زوال فلسطين.
اليوم، أبكي بحرقة. عرفته ونحن جيل شباب يجمع من مصروف جيبه للمقاومة، ورحل وجيل شبابنا اليوم بين من يثوي شهيداً لمنع الموت ومن يتسول الـ "أن جي أوز" والسفارات لينعم بالدولارات ويبيع الوطن وهموم المواطنين. عرفته ونحن نوصل شاباً منا مسيحياً إلى البرلمان عن دائرة سنية ومن دون كلفة قرش. شاب كنا نختلف معه عقائدياً وحزبياً، ولكننا ندعمه ونهلل لفوزه. نختلف بين عشرات الاتجاهات، ولكننا نلتقي على الأهداف الكبرى. نعرف أن الشيوعيين وشارل ديغول قاتلوا معاً لتحرير البلاد من النازية، وهم يعرفون أنهم سيختلفون في ما بعد على البرنامج الاجتماعي، من دون أن يكفّر أحدهما الآخر.
عرفته ونحن جيل شباب ينجح في تكسير الأسوار الطائفيّة، وعيننا على فلسطين. وها هو يرحل والأسوار تعلو، والعين على الأمة من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى فلسطين.
عرفته قبل 50 عاماً حين كانت الأمة كلها تنهض، والتقيته آخر مرة في دمشق. لم نستطع مغادرة الفندق، لأن القصف كان ينهمر من الغوطة. لم نغادر إلا وقد تحررت. يوم أمس، قال الصديق أحمد الدرزي إن أنيس كتب على ورقة قبل رحيله بيومين: أنا انتهيت، ماتت الرواية!!
لا يا أنيس، الرواية لا تزال طويلة، وسنرحل كلّنا قبل أن تنتهي، لكن هناك أجيال لم تولد بعد.
حياة الحويك عطية ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً