مقالات مختارة
في العشرية الأولى من هذا القرن، أتحفتنا الدكتورة المعمارية والمهندسة ريم عبد الغني بسلسلة محاضرات في مكتبة الأسد الوطنية تحت عنوان "أربعاء ريم الثقافي"، وكنا ننتظر بتوق الأربعاء الأول من كلّ شهر لتفاجئنا بقامة ثقافية عربية من مختلف الاختصاصات، تضيف الكثير إلى وعينا ومخزوننا ووجداننا، ولكن المحاضرة التي بقيت محفورة في أذهان الجميع، كانت محاضرة الدكتورة ريم ذاتها، راعية هذا النشاط، حين جلسنا جميعاً متسمّرين نستمع ونشاهد خط الرحلة التي قامت بها المتحدثة إلى القدس، وأخذنا نتبادل النظرات والهمسات: متى ذهبت ريم إلى القدس؟ وكيف؟
ولكنّ تفاصيل الدرب والناس والأرض والشجر والجسر والتعامل والأحاديث العابرة مع المسافرين أو القاطنين في المحطات، كانت مقنعة إلى درجة أنه لا يمكن لأي شخص أن ينسج تفاصيل كل هذه الرحلة من خياله، وخصوصاً أن كلّ وقفة ومفرق مشحون بمشاعر عاطفية تغمر الوجدان فرحاً وحزناً في الوقت ذاته. والسؤال المحيّر الذي تهافتنا على المتحدّثة لنسأله بعد المحاضرة: هل ذهبت فعلاً إلى القدس؟ وكيف؟ رغم أن صوت العقل ينهرنا بأن هذا ضرب من المستحيل في هذا الزمن ولمثل هذه الشخصية الوطنية العربية.
لا أعلم لماذا استحضرتُ تفاصيل تلك الرحلة وأنا أقرأ عن خيارات بايدن لإدارته الجديدة في وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومي أو "السي آي إي"، إذ اختار لبعض هذه المواقع شخصيات نعرفها وتعاملنا معها عن قرب في إدارات أميركية سابقة، بعضها كان يبدي تفهماً لما نقدّمه من رؤى في منطقتنا، وبعضها الآخر بقي منخرطاً في أجندات من صنع من يستهدف وجودنا وبقاءنا.
والمهم، وبعد عقد من مخططات برهنت أنها كارثية لبلدان عربية عديدة، واستكملت الإدارة الأميركية السابقة من خلالها مخططات لوضع يدها على ثروات وجغرافية قلب العالم، هل هناك تغيير في الأولويات لدى هذه الإدارة الجديدة وعودة إلى قيادة العالم من خلال الامتثال لحقيقة واحدة بسيطة، وهي أن حياة الإنسان أهم ما يجب الحفاظ عليه في هذا الكون، وأن البشر جميعاً متساوون في القيمة الإنسانية حيثما كانوا، أم أن الإمبريالية المتوحشة ومؤسسات الصناعة العسكرية وحكومتها العميقة سوف تستمر في خلق الفتن والحروب ضد العرب وضد سوريا بالذات، تحت مسميات مختلفة، وبذرائع يعملون على صياغتها بطريقة متّسقة مع الادعاءات بالحرص على حقوق الإنسان وأمنه واستقراره أو مكافحة الإرهاب الذي أسّسوه ونشروه وموّلوه في بلداننا، إذ لا بدّ من أن نعترف أنّ الأسس التي قام عليها هذا النظام الغربي تعتمد في أولى أولوياتها على نهب ثروات الشعوب وإشعال نار الفتن والحروب والعبث بمصائر البلدان ومقدراتها، كي يحقق هذا النظام الغربي الرفاهية للقائمين عليه ويحافظ على هويته وأسباب وجوده؟
من هنا، هل يمكن أن نأمل بتغيير جذري وحقيقي في موقف هذه الإدارة من المسائل التي تتحكم بمصائر وأمن ومستقبل شعوبنا أم أنّ أوراق البحث يتم وضعها على كيفية تشذيب وتجميل الصورة من دون إحداث أي فرق في الأساسيات؟
ما رشح إلى حدّ الآن من هذه الإدارة الجديدة هو أن هناك حواراً حول الموقف من الاتفاق النووي الإيراني ومن الحرب على اليمن. ولا شك في أن أي حوار وأي خطوات ينطلق من أولوياتهم هم، ومن توصيفاتهم لضرورات وإمكانيات واحتمالات المرحلة القادمة، وليس من موقف أخلاقي أو إنساني له علاقة بحجم القتل والدمار غير المبررين إطلاقاً، واللذين حلّا باليمن، أو حجم الصعوبات اللاإنسانية التي خلقها الموقف الأميركي من الحرب على الشعب السوري والاحتلال الأميركي لجزء عزيز من أرضنا ونهبهم لثرواتنا من قمح ونفط وآثار ومحاولة العبث بتوجّهات شعبنا ووحدة بلدنا واستقراره.
ولا شك أيضاً في أنَ موقفهم من العراق وليبيا لا علاقة له بنظرة إنسانية موضوعية إلى هذين البلدين اللذين حوّلهما الموقف الغربي واحتلالاته وقصفه إلى دول تحتاج إلى عقود كي تعود إلى التماسك والوحدة البشرية والجغرافية التي كانت تعيشها من قبل، والتي هي أساس للإنماء والتطوّر ومواكبة ركب التقدم والمعرفة في العالم.
خطر لي وأنا أحاول أن أستشرف مواقف هذه الإدارة من قضايانا والجرائم التي ارتكبت بحق شعوبنا من حصار مجرم وعقوبات سلبت شعوبنا أمنها الغذائي والصحي والتعليمي وأفقرتها، وضاعفت من حجم معركتها للبقاء، خطر لي أن أعيد رحلة الدكتورة ريم إلى القدس، وأن أقوم برحلة متخيَّلة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، وإلى مجلسي النواب والكونغرس، وأسأل هؤلاء الفرحين باختيار الشعب الأميركي لهم لاحتلال مواقعهم الجديدة ما إذا كانت لديهم أدنى فكرة عن وقع السياسات الأميركية على شعوبنا، وما تسببت به هذه السياسات، وما تزال، من قتل وتهجير وتجويع للناس وتدمير للبنى الصحية والتعليمية ودعم للإرهاب، في سبيل استمرار سيطرتهم على أرضنا ومنافذ حدودنا ونقاط تلاقينا مع الجيران والإخوة والأصدقاء، قبل أن يناقشوا ما إذا كانت سياستهم في العراق صائبة أم فاشلة؟
لماذا لا يستعرضون أين كان العراق قبل الاحتلال الأميركي له في العام 2003 وأين هو اليوم؟ وأين كان مستوى التعليم والطب والعلم والبحث والتعايش الاجتماعي في العراق قبل ذلك التاريخ؟ وأين هو اليوم؟ أم أن حسابات الربح والخسارة لديهم لا علاقة لها بالمعيار الإنساني الذي يفهمه شعب هذا البلد؟
وقبل أن يناقشوا الوضع في ليبيا اليوم، عليهم أن يعودوا إلى ما قبل قصف الناتو لذلك البلد، والذي بدأ بعد ساعتين فقط من اتخاذ القرار المجرم بحق ليبيا. وقبل أن يتحدثوا عن ديمقراطية وثورات ومعارضات في سوريا، عليهم أن يكلفوا خاطرهم للاطلاع على الواقع اليوم؛ واقع الحياة والعلم والطب في سوريا وما كان عليه هذا الواقع في العام 2010 قبل أن تبدأ أحداث ما أسموه "ربيعاً عربياً"، وأرسلوا من أجله مئات الآلاف من الإرهابيين وشذاذ الآفاق المدربين على أيدي خبراء المخابرات الغربية على الذبح والتفجير، والذين عبروا الحدود والمطارات من مئة بلد، ليصلوا إلى منطقتنا وبلدنا ليعيثوا بها خراباً وقتلاً وتدميراً؟ أم أن حساباتهم لا علاقة لها بآلام البشر ومستوى حياتهم ومضاعفات معاناتهم! أولم يعلموا أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض، وأن حياته مقدسة، وأن الحفاظ على هذه الحياة هو قدس الأقداس؟ فكيف يمكن الادعاء بالحرص على حقوق هذا الإنسان وحريته ورفاهيته في الوقت الذي يتخذون إجراءات وعقوبات وحصاراً ودعماً لإرهابٍ وإجرامٍ يحرم الإنسان من أبسط حقوقه في الحياة، والتي صانتها كلّ الشرائع الدولية وشرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؟!
هل أصبح من المستحيل اليوم أن يتم الحديث مع الساسة الأميركيين كبشر طبيعيين، وأن نقول لهم إن قرار إدارتكم بشأن القدس والجولان وفلسطين هو مصادرة لحقّ شعبنا في أرضه وتاريخه ومستقبل أبنائه، وإن هذه القرارات تبرهن أنكم تخلّيتم عن منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية والشرعية الدولية، والتي هي الضامن الوحيد لاستمرار مكانة وسياسة الدول؟ أوَلم تقرأوا شاعرنا العربي الذي قال: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، أم أن الحديث عن الأخلاق وقدسية الإنسان وحقوقه نوع من الترف الإعلامي الذي لا وقت لديكم للإصغاء إليه؟
السؤال هو: هل وصلت الوحشية الإمبريالية إلى نقطة اللاعودة، وهي في طريقها إلى الانهيار النهائي، حتى وإن تخيّل القائمون عليها أنهم في مسار مختلف أم أن هناك أصواتاً حرّة واقعية ومسؤولة قد تحاول في المستقبل القريب إعادة التوازن إلى تصرفاتها، أملاً بإصلاحها وإنقاذ ملايين البشر من شرورها في كل أنحاء هذه المعمورة؟ هذا هو السؤال الذي ستتضح الإجابة عليه خلال الأشهر القادمة. ولو أن الإجابة واضحة، ولكن دعونا نأمل ونتأمل مجريات الأحداث القادمة.
د.بثينة شعبان ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً