الثبات - مقالات
نعم .. ما أحلى الرجوع إليه
الإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
لو تابع أحدنا الألطاف والنعم التي تفد إليه من الله عز وجل، متسربة إلى كيانه، أو متألقة أمام عينيه أو سارية بالمتعة إلى أنفه أو سمعه، ودام في متابعته ومراقبته لها نحواً من أربع وعشرين ساعة، لهفا القلب منه بالحب الحقيقي لصاحب هذه الألطاف، ولفاض شوقاً إلى لقياه، وها أنا ذا أحدثك عن نماذج من هذه الألطاف:
تأمل في نعمة الرقاد إذ يسري إلى كيانك بتدبير من الله عز وجل، بعد ساعات من جهد النهار وتوتر الأعصاب، دون أن يكون لك في استجلابه إليك أي فاعلية أو دور، ثم قف أمام نعمة اليقظة إذ تعيدك بفضل منه إلى وظائف الحياة، شعوراً وذاكرة وإدراكاً، ثم فكر وأنت تتجه إلى الحمّام في السموم التي ينجّيك الله منها وينقذك من عقابيلها، ثم عد وتأمل وأنت تقف أمام المغسلة في هذه المادة السيالة العجيبة التي تمتاز بالشفافية التي لا تقبل أي لون، وبالصفاء الذي يتسامى على أي رائحة أو طعم، ولو كان فيها شيء من ذلك لغابت عنها فائدتها ولعجزت عن أداء وظيفتها، تأمل في هذا الشيء العجيب الذي نسميه (الماء)، ولا تنس أنه لو فقد من حياة الإنسان ثمانياً وأربعين ساعة لاشمأز من نفسه ولعاف حياته، فإذا جلست بعد ذلك إلى مائدة الطعام فتأمل في الأصناف المنثورة منه أمام بصرك، تجدْ أنه نتيجة سماء أمطرت وأرض أنبتت وأنعام سخرها الله لك لحوماً وألباناً، فإذا بدأت تأكل من هذا الذي سخّره الله لك أرضاً وسماءً وأنعاماً، فتأمل كيف تمضغ اللقمة في تجاويف فمك، ثم ترسلها إلى حلقك، وسائل نفسك: كيف لا تقضم لسانك الممتزج مع قطعة اللحم التي تطحنها تحت رحى أضراسك، ثم كيف تجد سبيلها بعد ذلك سائغة إلى حلقك فجوفك. تجد نفسك أمام سلسلة من الألطاف الإلهية التي تحوطك ولا كحياطة الأم لوليدها، فهذا نموذج صغير جداً من الألطاف التي تسري بالرعاية والحماية إلى داخل كيانك .
أما تلك الألطاف الأخرى التي تجوب أنساماً من حولك، أو التي تتألق زهوراً ووروداً أمام بصرك، أو التي تسري عبقاً إلى أنفك، أو التي تنبعث طرباً في أذنك ونشوة في نفسك، فلست أملك من البيان المعبر عنها إلا أن أقول: إنها بحق رسائل حب أو تحبب من الله إليك، وإنك لتجد فيها ما هو عزاء للمحبين في الآمال التي افتقدوها، وما هو ترجمة للأشجان السارية إلى قلوبهم، وما هو رجع لصدى الأشواق المنبعثة في نفوسهم.
إذن ليس بينك وبين أن يصبح قلبك وعاء حب لمولاك العظيم واللطيف هذا، إلا أن تتابع في يقظة فكرية ألطافه ورسائل حبه الواصلة منه إليك، مدة لا تقل عن أربع وعشرين ساعة متواصلة.
غير أني أريد أن أمهد بهذا الذي ذكرت لحقيقة أخرى تنطوي على ألطاف إلهية من نوع آخر، تأسر القلب وتذيب إنسانية الإنسان حياء من صاحب هذه الألطاف العجيبة وحباً له واشتياقاً إليه:
يراك مولاك هذا شارداً عنه، متقلباً في غمار أهوائك، مستسلماً لرعونات نفسك، متنقلاً بين مُتَعِك، محجوباً عنه بشواغلك والسعي إلى أحلامك وآمالك، فلا يزيده ذلك إلا حباً لك ورحمة بك وإشفاقاً عليك (ما لم يكن باعثك إلى الشرود عنه استكباراً يملك عليك كيانك واستغناء بأوهام قوتك عن الاستعانة به والافتقار إليه)، ومن ثم فإنه لا يدعك تفارق الدنيا إلا وقد جذبك إلى حماه ودعاك إلى الاصطلاح معه، ونبهك إلى عظيم حبه لك وبالغ عنايته بك.
ولكأنه يقول: ألم يأن لك أن تعود من طوفتك التائهة بين بوارق السراب إلى من بيده أمرك وإليه مردّك؟
ألم توقظك بَعدُ بوارق الأوهام التي أضنيت نفسك لحاقاً بها إلى الحقيقة التي آن أن تتعرف عليها، وأن تعلم أن بيدها مفاتيح سعادتك؟
ألم تتبرّم بعد من تعاطي كؤوس أوهامك لتعود إلى المعين الصافي والمورد العذب، إلى إلهك الذي إليه شرْحُ صدرك وتدبير أمرك، ذاك الذي أضحك وأبكى وأمات وأحيا؟
إن هذه الأسئلة التي تفيض بالعتب والحب من مولاك عز وجل هي الترجمة المفصّلة الدقيقة، لسؤاله المغموس بالعناية والحب: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، كم لاحق به شاردين وتائهين من عباده، فانعطفوا إليه عائدين قائلين: بلى يا رب لقد آن!
لاحَقَ بهذا السؤال الحلو المحبب ذلك الشارد عن سبيله الفضيل بن عياض، لاحَقَ به الشابَ المفتون باللهو عبد الله بن المبارك، لاحَقَ به الأمير الغارق في ملاذه بشراً الحافي، وكثيراً من أولئك الذين خلوا من قبل، فاصطلحوا جميعاً مع مولاهم الذي دعاهم واجتباهم إليه. وذاقوا بل انتعشوا بلذة القرب منه بعدما عانوا طويلاً من وحشة البعد عنه، وأصبحوا من خيرة عباد الله الصالحين.
وبوسعك أن تتبين كيف أن هذا السؤال المعاتب ذاته يلاحق اليوم أناساً ركِبوا رؤوسهم في اتباع الشهوات الجانحة وركنوا من سعيهم إلى فنون من العيش أنستهم واقع عبوديتهم لله، وحجبتهم عن الإصغاء إلى خطاب الله الناصح الآمر والناهي لهم، ثم إنْ هي إلا مناسبات تمرّ، أو كلمات من بيان الله تطرق أسماعهم، أو رؤى ومنامات يتجلى فيها الله بشكل مّا لهم، أو مواقف أمام بيت الله أو لحظات خشية أمام مثوى رسول الله أتيحت لهم، وإذا اليقظة الإيمانية قد دبتّ في نفوسهم، وإذا الحب الأقدس لله عز وجل قد فاض في قلوبهم، وإذا الحياء منه قد هيمن على وجدانهم، وإذا الحجب الكثيفة قد انجابت عن أبصارهم وبصائرهم، وعندئذ يتناهى إلى سمع كل منهم عتاب رباني رقيق يقول: أما آن لك أن تعلم أنني أنا الخليق بحبك .. أنا الذي يعطيك قبل أن تطلب، أنا الذي ينجدك قبل أن تستنجد، أنا الذي يؤنسك في ليالي وحشتك، أنا الذي ينقذك من ساعات كربتك، ألجمال الذي يأسر قلبك أنا سرّه ومصدره، المُتْعَةُ التي تنشُدها أنا الذي أبْدَعَها وقَرَنَها بأسْبابها.
كم في الناس الشاردين اليوم عن محراب العبودية لله، من قد أعادهم هذا العتاب الرباني الآسر إلى واحة العبودية له، لم يكلفهم هذا التحول إلا نظرة لطف من الله إليهم، ذلك هو الاجتباء الرباني الذي لا يتطلب كثير دراسة ولا طويل مناقشة أو حوار، كما هو شأن من تريد أن تهديهم عن طريق الفكر وعرض الحجج، والإنذار والتخويف، إنما هو الانتشال من وادي الضياع والجدب إلى صراط الإتباع والجَذْب، وما أكثر ما يتم ذلك ما بين عشية وضحاها، وإن سألت فما هي القوة الجاذبة التي نقلتهم طفرة من ظلام التيه والجهل إلى نور الهداية والعرفان، أقول لك: إنها الحب .. الحب الذي يتجه من الله لعبده، قبل أن يتجه من العبد لربه. وإنك لتنظر إلى حال هؤلاء (المُجتَبَيْن) فلا تشك في أنهم مأخوذون بنشوة حب الله لهم ولطفه بهم أكثر من أن يؤخذوا بحبهم له ورضاهم عنه.
فهذا ما أعنيه باللطف الرباني المتميز عن سائر النعم والألطاف الوافدة إلينا منه عز وجل، مما ذكرت نماذج منها، من قبل، إنها الألطاف التي تجذبك إليه وتعيدك من شرودك عنه إلى الاصطلاح معه والانقياد له. وهي الألطاف التي إن تعرضت لها ساقتك لا إلى حبه فقط، بل إلى عشقه والتعلق به.
ولتعلم أن كلاً منا معرض لهذه الألطاف محلّ لهذا الاجتباء، إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب أو الذي بعده، ولن تحول المعاصي التي نتورط فيها عن نيل ألطافه هذه، بل إنها تلاحق العصاة قبل غيرهم.. ولكن فئة واحدة من الناس لن تجد هذه الألطاف الربانية إليها من سبيل، إنها فئة المستكبرين على الله، المستهينين بتعاليمه، المتمردين على واقع عبوديتهم له، فهؤلاء قضى الله، من خلال سنّة ماضية في حقهم، أن لا ترتفع عن عقولهم حجب الزيغ، وأن لا ترتد عن قلوبهم أغلفة القسوة والعناد. إنهم أولئك الذين قال الله عنهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].
ولكن فلندَع الحديث عن هؤلاء الذي يزجنا الحديث عنهم في وحشة كلنا في غنى عنها، ولنرجع إلى الحديث عن ألطاف الله والناس الذين جعلهم الله محلاً أو أهلاً لها. إنهم قد يكونون موغلين في الشرود والعصيان، غير أنهم إنما ذهبوا ضحية ضعفهم وعجزهم عن مقاومة رعوناتهم، فهم كالمريض الذي يعلم أنه بحاجة إلى الدواء، أو كالمخمور الذي يرمق بعين الانكسار الناس الذين عافاهم الله من بلائه، كن على يقين أن ألطاف الله لن تتخلى عنهم، وأنهم، بدون ريب، محلٌ لرحمته بهم وإحسانه إليهم.
وأنصحك أن لا تزدريهم وأن لا تسيء الظن فيهم، فأنت لا تدري إلى م سيؤول حالهم. لعل الأيام القادمة تريك منهم أئمة مهديين بل هداة صالحين، وإن بين ظهرانينا اليوم كثيراً من هؤلاء رجالاً ونساءً، وإننا لنرجو أن ينفعنا الله بدعائهم.
وإن المناسبات الزمانية والمكانية التي تتجه فيها ألطاف الاجتباء إلى الشاردين عن رحاب الله كثيرة متنوعة، وليست أيام رمضان هذه ولياليه إلا واحدة من هذه المعالم.
ألا ولتعلم أن مقياس محبة الله وغضبه لا تكمن في الساعة التي ترى الإنسان فيها طائعاً أو عاصياً. وإنما تكمن في مصيبة الإعراض عنه أو نعمة الرجوع إليه..
فلنهتف جميعاً أنشودة الرجوع إلى رحابه، أنشودة الترامي على أعتابه، قائلين جميعاً: ما أحلى الرجوع إليه .. أجل، ما أحلى الرجوع إليه