مصادر التشريع الإسلامي (1/17) - فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري

الثلاثاء 08 كانون الأول , 2020 01:15 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات 

 

مصادر التشريع الإسلامي (1/17)

فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري

 

يبدو أنه يجب علينا الحديث عن مصادر التشريع الإسلامي بين الحين والآخر، لأن كثيرا من الناس يحتاجون إلى ذلك، ولا تستقر هذه المعاني في الأذهان إلا بتكرار القول فيها، ولأن هناك دقائق في ذلك العلم تحتاج دائما إلى مراجعة وإيضاح لمقتضيات العصر المتغيرة المتطورة، وعندما فكر المجتهدون العظام في مصادر التشريع الإسلامي كان ذلك في صورة أسئلة متتالية كانت الإجابة عليها -حتى مع اختلاف في بعضها- تعبر عن تلك المصادر، وعن كيفية التعامل معها، وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، وكيفية تطبيقها في الواقع المعيش، وهذه الأسئلة تتمثل في الآتي :

السؤال الأول: ما الحجة التي يعتمد عليها المسلم في تشريعه؟

السؤال الثاني: كيف يتم توثيق هذه الحجة؟

السؤال الثالث: كيف نفهم ما قد ورد إلينا موثقا، بالطريقة التي تطمئن إليها قلوبنا؟

السؤال الرابع: ما مساحة القطعي والظني في هذه الحجة، وبالتالي ما الذي يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه ظني، وما لا يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه قطعي؟

السؤال الخامس: ما موقفنا من المحدثات التي لم يرد بها حجة مباشرة، وهل يمكن أن نستخرج آلية للتعامل مع هذه المحدثات، وما تلك الآلية؟

السؤال السادس: ما السقف الذي يجب أن يحدنا في التزامنا في تفكيرنا، بحيث لا يترتب عليه شتات أو ضرر لأنفسنا أو للآخرين؟

السؤال السابع: كيف نرجح عند التعارض والتعادل الظاهر في ذهن المجتهد بين الحجج المختلفة، فما الذي نقدم، وما الذي نؤخر، وما معيار ذلك؟

السؤال الثامن: ما شروط ذلك المجتهد الباحث الذي نتكلم عنه؟

السؤال التاسع: كيف ندرك الواقع المعيش حولنا؟

السؤال العاشر: كيف نصل بين المطلق والنسبي في حياتنا؟

إن هذه الأسئلة العشرة يمكن أن نقول بشأنها أنها رحلة في ذهن المجتهد، أما السؤال الأول وهو المتمثل ما الحجة؟ فقد توصل جميع المجتهدين عبر القرون إلى أن الحجة تتمثل في القرآن الكريم باعتباره الوحي المعصوم المحفوظ الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة :2] ولقوله تعالى: ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت :42]. ولقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9].

وفي السنة النبوية المشرفة باعتبارها التطبيق المعصوم الدقيق الواضح العملي الذي علمنا مناهج الوصل بين المطلق [الوحي] وبين النسبي [الواقع]، ولأنها صادرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الموصوف من ربه بأنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى﴾ [النجم :3] والموصوف من ربه بأنه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء :107] والموصوف من ربه بأنه أسوة حسنة، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب :21] والموصوف من ربه بأنه له الطاعة والاتباع، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد :33]، وقال سبحانه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران :31].

ويتبين لنا في إجابة هذا السؤال أن من أراد أن ينكر السنة، فإن تفكيره يكون شاذا خارجا عن تفكير كل المجتهدين عبر كل العصور وحتى عصرنا الحاضر، وسوف يلاقي من المشكلات الفقهية والعقدية ما لا يستطيع حله على الإطلاق، وسيضطر المسكين إلى تغير هوية الإسلام، ويخادع نفسه والآخرين بأنه ما زال ينتمي إلى هذا الدين، ولقد أنكر السنة شذاذ من الناس لا علاقة لهم بالعلم، ولا بأهله فلا يصدق عليهم أبدا أنهم من الجماعة العلمية، بل هي مجموعة من الأهواء التي تتلاطم في أفكار مضطربة في أذهان هؤلاء المدعين.

ومن الأمثلة الصارخة التي رأيناها في عصرنا الحاضر، ولا أظن مثلها قد ورد في عصور سابقة هو مثال المهندس محمد متولي نجيب مؤسس جماعة القرآنيين ومدير هيئة التليفونات توفى يوم الثلاثاء 26 جمادى الأولى 1380 هـ 16 أكتوبر 1960م، وكان قد تولى نظارة المواصلات لمدة أيام في بدايات ثورة يوليو سنة 1952، وألف أكثر من 13 كتابا، هي مجموعة من الهذيان الذي يحتاج إلى فضح هذا التفكير، أنفق عليها ثروته التي ورثها عن أبيه والتي كانت تتمثل في 40 فدانا بمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ، ومن أكبر هذه الكتب كتاب أسماه «الصلاة» ذهب فيه إلى إنكار الصلوات الخمس، بل إنها عشرة السجود فيها قبل الركوع، وأنكر التحيات، ولذلك لم يتبعه أحد على الإطلاق، فترك الإسلام وارتد عنه، وذهب إلى ما ألقىكافرا بالله ورسوله، ولكنه كان صادقا مع نفسه، ومع منهجه في الترتيب المنطقي لإنكار السنة النبوية؛ لأنه التزم كل لوازم ذلك الإنكار فوجد نفسه خارجا عن الإسلام، وهذا هو الذي جعل المخلصين من الأئمة والمجتهدين عبر العصور يتمسكون بالسنة النبوية ويجمعون على حجيتها ويجعلونها مصدرا من مصادر التشريع عند المسلمين.

فالكتاب والسنة إذن هما الحجة، ولكننا نجد محاولات في الشرق والغرب من غير المتخصصين في الشريعة الإسلامية وعلومها تضيق عليهم أنفسهم وأفكارهم، فيقترحون أن ينكروا السنة النبوية أو يحاولوا ذلك، ولكن بصور مختلفة، وبأساليب مبتسرة من أجل ألا يقعوا في ما وقع فيه نجيب؛ ولأنهم في أنفسهم مسلمون مخلصون إلا أنهم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في فهم العصر وفي فهم الإسلام، وفي محاولة التطبيق بينهما.

السؤال الثاني: هو إذا كان الكتاب والسنة المصدرين للتشريع الإسلامي، فكيف وصلا إلينا؟ أما الكتاب فقد وصل إلينا بالتواتر لم يختل فيه حرف واحد، وحفظ عليه على مستوى الأداء الصوتي للحروف ومخارجها والكلمات وطريقة نطقها، ونشأت عدة علوم للحفاظ على هذا الكتاب الكريم كما هو منها: علم النحو والصرف، والقراءات، والتفسير، بل وعلوم اللغة كلها، بل إن المعاجم العربية إنما وضعت للحفاظ على هذه البيئة التي منها ذلك الكتاب العظيم، لم يحدث في العالم أن حفظ كتابا مقدسا أو غير مقدس الأطفال في الكتاتيب والمنارات، ولم يحدث أبدا أن حفظ غير الناطقين بلغة ما نصا مقدسا بطول القرآن، وهم لا يعرفون لغته، ولا يفهمونها، ولا يزال أحدهم مع صغر سنه وعجمة لسانه يقوم بقومه بالقرآن في الصلاة، ولا يخطئ منه حرفا إنها معجزة ربانية واضحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل