الثبات - مقالات
قضايا الفكر المعاصر
تجديد دراسة العقل بين العقل والنقل
الدكتور العلامة وهبة الزحيلي
إن تحرك الأمة العربية ومبادرتها للنهوض والتقدم لا يحتاج إلا عزيمة الشجعان الجريئين، الذين يندفعون بغيرة وحزم وإخلاص لبناء شخصية الأمة ووحدتها وانطلاقها نحو مستقبل زاهر، وإيجاد كيان قوي متكامل.
وعلى جماهير الأمة المسلمة أن تعي أن درب بناء المستقبل ليس مفروشاً بالورود، وأنَّ على كل واحد من الأمة مسؤوليات وواجبات جساماً تتطلب التضحية والعمل الدؤوب.
وعلى المسلم والمسلمة أن يدرك كل منهما أن شريعة الله الخالدة هي الحاكمة في قضايا العقيدة والعبادة، وأصول التعامل، والأخلاق والآداب الملازمة لكل شؤون الحياة الشخصية والأسرية والاجتماعية العامة، ودائرة الشريعة مقصورة على تقرير الحلال والحرام، وشؤون المعاد، وما عداها فهي دائرة أوسع، وأُفقٌ يتحرك فيها الإنسان بفكره وعقله ووعيه وقلبه.
ودائرة غير الشريعة تشمل كل قضايا الحياة الدنيوية التي لا بدَّ من تعميرها وحل مشكلاتها بنحو سريع، ومنطلق الأمة ومنهجها واضح في آيات كثيرة، منها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّٰلِحُونَ}، والمراد: الصالحون لعمارتها والتخطيط الناجح فيها.
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، وهذه معالم وأصول العمل الصالح، وملازمة الحق والعدل، والتواصي بالصبر والمصابرة على شؤون الحياة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ"، دعوة صريحة قوية لتدبير شؤون الدنيا بعقول أبنائها وبناتها، وتفويض لهم بإعمال أفكارهم في قضاياها وتقدِّمها وعمرانها، وليس المعنى الجهل بها أو الغض من متطلبات الدنيا، وليس التحرر العقلي الذي يفخر به الغربيون بمعنى التفلت من كل شيء حتى الدين إلا عبثاً بمقدورات الإنسان، وانحلالاً من القيم إلا في حدود تحقيق المصلحة المادية، وهذا على عكس المفهوم الإسلامي الذي يحض على العناية بشؤون المادة والدنيا، ولكن ضمن معايير الأخلاق والاعتبارات الإنسانية، فحقق الإسلام في نظرته للإنسان أمرين عظيمين هما:
-استقلال الإرادة.
-واستقلال الرأي والفكر.
وأدَّى هذا الاتجاه إلى إنعاش العلم والمعرفة، ونبذ التقليد الأعمى وذم المقلدين الذين يحاكون الأجداد والآباء من دون محاكمة ولا عقل ولا موازنة، كما قال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ۗ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ}، وفي مقابل ذم هؤلاء المقلدين المتحجرين امتدح الله المبدعين والعاملين في آيات كثيرة، منها: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، ومنها: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، أي: يميزون بعقولهم بين ما يسمعون، فيأخذون بالأحسن، ويتركون القبيح.
إنَّ العقل الإنساني بهداية الله تعالى وتوفيقه كفيل إذا اقترن بالهمة العالية والعزيمة والإرادة الصلبة والإخلاص والجرأة بأن يحقق العجائب، ويُسعد البشرية، ويتجاوز كل أوضاع التخلف، وهو قادر بعد تجاوز السلبيات أن يحل مختلف المشكلات الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإسلامية وغيرها، ولا سيما في عصرنا الحاضر، لإثبات الذات، وتبديد الاتهامات، وتحقيق التنمية والتخلص من كل مظاهر الركود والخمول، على أساس علمي سليم وبحث علمي عميق.