أقلام الثبات
لا يعدم أهل المحاصصة الطائفية الحامية للفساد والمولدة له، طريقة ولا وسيلة للدفاع عن نظامهم الذي يعتاشون منه، في وجه رياح التغيير التي تعصف به بين حين وآخر. حتى لو استلزم ذلك استباحة الدولة بما تشكل من شعب ومؤسسات، فبقاؤهم على هذا النمط السياسي والإقتصادي له الأولية على ما عداه، حتى لو اقتضى ذلك التضحية بسلامة البلد وسيادته. ولطالما لجأ أهل النظام، أو ما يسمى "الدولة العميقة" التي تحرسه، منذ أن أنشأته وأورثته لهم فرنسا، ثم انتقلت رعايته إلى الولايات المتحدة الأميركية، إلى الإستعانة بقوى الإستعمار وأساطيله، أو إلى سلاح أحزاب اليمين المتطرف، لمنع التغيير السياسي بالقوة وإن تطلب ذلك إحراق البلد على من فيها.
هذا ما شهده لبنان عام 1958 عندما تغيرت توازنات المنطقة مع المرحلة الناصرية، فلجأ رئيس الجمهورية حينها كميل شمعون للإنضمام إلى حلف بغداد، الذي أنشيء لمواجهة شعارات التحرر والتقدم والإشتراكية والوحدة، التي سادت في تلك المرحلة، فادخل لبنان في حرب أهلية دموية. وهذا ما فعلته أحزاب اليمين اللبناني، عام 1975عندما شعرت أن النظام يضطر تحت ضغوط الحركة الشعبية والطلابية الناشطة، التي استقوت بالوجود الفلسطيني، إلى تقديم تنازلات تمس بجوهر وظيفته، فاشعلت حرباً تحت شعارات تستغل شعار السيادة، فيما هي تهدد بالفعل وحدة البلد ومستقبله. وهذا ما حدث عندما استدعى البعض جيش الإحتلال "الإسرائيلي" ليجتاح لبنان ويصل إلى بيروت، لينصبه رئيساً للجمهورية، لأنه كان يرى أن وصوله سيغير المعادلات وسيحمي النظام ووظيفته، من خلال حفظ تركيبته الطائفية والرأسمالية التبعية. وهذا ما نشهده حاليا من خلال طرح أفكار ومشاريع تتراوح بين الدعوة إلى "الحياد" المشبوه والمرفوض من قبل معظم الشعب اللبناني، وصولاً إلى الترويج للفيدرالية حيناً والكونفدرالية حيناً آخر. في ظل تفلت وتغييب كامل ومقصود لمنطق الدولة ولدورها، فالفوضى كما بات واضحاً هي أحد أسلحة تحالف الفساد المكون من زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، لتشتيت تجمع اللبنانيين المطالبين بحقهم في عيش حياة كريمة في وطنهم.
الم نلاحظ هذا الإنكفاء عن الأضواء الذي نفذته جمعية المصارف وأصحاب البنوك، بعد أن إختلسوا أموال المودعين وهربوا ما بقي منها إلى الخارج؟ ورافق ذلك صمت القبور من قبل كبار السياسيين وأهل السلطة والحكم ومرجعيات الطوائف السياسية والروحية، التي تتجاهل الفقر الذي يداهم المواطنين والجوع الذي بدأ يصيب الكثيرين. كما سكتت الأصوات التي تنادي باستعادة المال المنهوب، أو بمحاسبة الذين سرقوا أموال الناس، أو الذين منعوا المواطن من الحصول على أمواله المودعة في البنوك؟
وألم نلاحظ حجم المشاكل المفتعلة والحوادث الأمنية المتنقلة، التي تتكرر أمام أعين السياسيين وكأنها لا تعنيهم؟
هي الفوضى التي يتقصد أهل النظام نشرها، لتكون قنبلة دخان تستر تحركهم لحماية وجودهم وبقائهم. والسجال في القضايا الخلافية سيكون سمة هذه المرحلة، لأنه سيكون وسيلة إلهاء الناس وتفريقهم عن مطالبهم الحياتية والإجتماعية التي تجمعهم. وأبرز ملامح وسائل التفريق هذه، كما تلوح في أفق الرعاة واهل الحل والربط في هذا النظام، هو العزف على لحن الحياد وصولاً إلى طرح دعوة الفدرلة التي بات الحديث عن مطالبة البعض بها شائعاً، لأن هذه السجالات التي ستكون حادة، كما عودنا على ذلك أصحابها، هي باب هروبهم من المحاسبة المالية ومن مطالبة الناس بحقوقها وأموالها. وهي طريق الخلاص من المطالبة بتغيير هذا النظام المترنح، من كونه مزرعة طوائف تتناحر على المحاصصة وتستقوي بالفاسدين وتحميهم في الوقت نفسه، إلى وطن يقوم على المواطنة واحترام الكفاءة تحت خيمة العدالة وحكم القانون.
كما أن الفدرلة في الوقت عينه، فرصة للذين تعودوا على عقد الصفقات مع الخارج وبيع المواقف، ليعقدوا صفقة تريح العدو الصهيوني، الذي بلغ مرحلة طالما كان يخشاها، هي مرحلة توازن الردع مع المقاومين لمشروعه في المنطقة. فتكون الفدرلة باباً للإنضمام إلى طابور عبيد أميركا في المنطقة، الزاحفين لنيل رضى العدو "الإسرائيلي" وتطبيع علاقاتهم به. وهذا غيض من فيض ما قد يفعله رموز نظام أنشأه الإستعمار على قاعدة العنصرية والطائفية والفئوية؛ وعلى التبعية لقوى الهيمنة العالمية، في كل شيء، من السياسة إلى الإقتصاد وصولاً إلى خضوعه لتلك القوى في رسم حدود علاقته مع الجوار الشقيق. فالفدرلة تحمي وظيفة النظام الذي صنع ليكون خنجراً تطعن فيه خاصرة سورية ويهدد فيه دور المقاومة وكل من يواجه الغزوة الصهيونية.