الثبات - مقالات
مكانة العقل في الإسلام
معنى العقل في اللغة والاصطلاح
أولاً: معنى العقل في اللغة
قال ابن فارس: "العين والقاف واللام أصل واحد منقاس مطرد، يدلّ عُظْمُهُ على حُبْسة في الشيء أو ما يقارب الحُبسة. من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل"، والمقصود بالحُبسة: المنع، وسمي العقل بذلك لأنَّه يعقل الإنسان ويمنعه عن التورّط في المهالك، أي يحبسه، كما أنَّه يمنعه عن ذميم القول والفعل وعمّا لا يَحْسُن، فكأنَّه يقوم بوظيفة الحارس الأخلاقي الأمين.
ثانياً: معنى العقل في الاصطلاح
العقل اصطلاحاً: "أحد غرائز النفس أو قوّة من قواها، تمكنها من إدراك المعاني والحقائق"
العقل في القرآن الكريم
الناظر في آيات القرآن العظيم، يجدُ أنّه اشتمل على عشرات الآيات التي تدعو إلى التعقّل، والتدبّر، والنظر، والتفكر، وما في معانيها، كما يجد أنّ العقل في صيغته الاسمية لم يرد في القرآن مطلقاً، وكلّ ما ورد هو في صيغة الفعل: عقل، يعقل، نعقل، في الماضي، والمضارع، والمفرد، والجمع، وعدد هذه الألفاظ يقرب من الخمسين، كما وردت ألفاظ مرادفة للعقل، نحو: اللبّ، الحلْم، وغيرها.
أمّا ألفاظ: الفكر، والتفكر، والعلم، والنظر، والتبصّر، والإدراك، والتدّبر، فقد وردت مئات المرّات، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ للعقل شأناً كبيراً ومقاماً عظيماً في القرآن، خاصة إذا عرفنا أنّ النصّ القرآني استوعب كلَّ معاني التفكير الإنساني، وأنّه لم يذكر العقل إلا في مقام المدح والتبجيل والتكريم.
العقل في السنة النبوية
- قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو مسعود الأنصاري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: "استووا ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثمّ الذين يلونهم" وأولو الأحلام والنهى هم العقلاء.
وقوله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: "إنّ فيك خصلتين يحبّهما الله: الحلم والأناة"، والحلم يُطلق ويُراد به العقل، قال الإمام النووي: الحلم هو العقل، وأمّا الأناة فهي التثبّت وترك العجلة.
دور العقل في الإسلام
دور العقل في الإسلام كبير، ومنزلته رفيعة، فهو مناط التكليف، ومن أعظم النعم والتشريف، وقد امتنَّ الله به على الإنسان، لأنه يميز به بين النافع والضار، ويدرك به التكاليف الشرعية، فالعقل هو آلة الإدراك والتمييز عند بني البشر، وبهذه الآلة فضّله الله تعالى على كثير ممّن خلق، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
ولقد وجّهنا الله تعالى إلى استخدام هذه الآلة من خلال الحثّ على التأمّل والتفكّر والتدبّر والنظر في السموات والأرض وما فيهما، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} وقال: {أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
و اعتنى القرآن العظيم في بناء العقل المنهجي من خلال التأصيل والتفصيل، والصيانة والحماية، الحسية والمعنوية من خلال ما يلي:
1- الحثُّ على بناء العقل بالعلم، فكما أنَّ نمو الجسم بالطعام فإنَّ نمو العقل بالعلم، وقد رفع الله أهل العلم، فكانت شهادتهم مقترنة بشهادة الله عز وجل والملائكة المكرمين، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
2- الحث على فحص المعلومات، فلا يقبل أي معلومة حتى تمر على طريق التصفية والتقنية، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال أيضاً: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات: 6].
3- الحث على النظر والتأمل والتدبر في الآيات الكونية والشرعية، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]، وقال أيضاً: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء: 82.
4- التحذير من الانتقائية في قبول الحق، فيقبل بعض الحق ويترك الآخر، وهذا لايكون إلا باتباع الهوى بالتقليد والتعصب، فالحق يقبل مطلقاً، كما أنَّ الباطل يرد مطلقاً من غير قيد ولا شرط.
قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال أيضا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85].
5- النهي عن التقليد والتعصب الأعمى للآباء والعوائد المخالفة للحق، فقد نعى الله على الكافرين المقدمين آباءهم وعوائدهم على الوحي، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، ونعى على الكفار أنْ لم تكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [يونس: 78].
6-وحذَّر القرآن الكريم من اتِّباع الظَّنِّ والأوْهام، فالظَّنُّ لا يُغني من الحق شيئاً.
7- حرم الإسلام كل ماكان وسيلة تؤدي إلى إفساد العقل وتعطيله وتحويله عن مسار الحق والهدى؛ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90- 91].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ مُسكر خمر وكلُّ مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يُدْمِنُها لم يَتُبْ منها، لم يشرَبْها في الآخر"، كلُّ هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه، وجعل الدية كاملة على من تسبب في إزالة العقل كاملاً.
"العقل نعمة عظيمة من نعم الله تعالى أنعم بها على الإنسان، إذ من خلاله يتعرّف الإنسان على أسرار خلق الله تعالى وعظيم صنعه، وبه يتوصّل إلى تصديق الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله تعالى لهدايته وسعادته، وذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبيّن إلا بالعقل، فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، أو الشرع كالشمس والعقل كالعين، فإذا فتحت رأت الشمس، وإلا فلا"