الثبات - مقالات
خطر غفلة قلوب البشر
فضيلة الشيخ الحبيب عمر بن حفيظ
كلُ ما يدورُ على ظهرِ الأرض -بمُختلفِ أشكالِه وألوانِه- يضمَحلُّ، ويتلاشَى، وينتهي، ويفنَى، ويزول، كأفراد، جماعات، أحزاب، دُول، شعوب، علوم، معارف، ملابس، مظاهر، مراكب، مقاعد، بيوت، منازل، وأرض، وسماء، ونجوم، وكواكب، وبحار، وطيران، وعلم فضاء، وعلم جيولوجيا، وعلم طب؛ يزولُ الكلُّ، يضمحلُّ الكلُّ، يتلاشَى الكلُّ، ينتهي الكلُّ.
فما أعظمَه مِن مستقبلٍ بعدَ هذا الانتهاء! فيهِ يقولُ المَلِك {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} أين أوهامُ المغترِّين بالأجهزة؟ أين أوهامُ المغترِّين بالحضارة؟ أين أوهامُ المُغترِّين بالسلطة؟ أين أوهامُ المُغترِّين بأسلحةِ الدَّمار؟ أين أوهامُ المُغترِّين بالأحزاب؟ أين الذين سَوَّلَ لهم غرُورُهم أن يؤذوا نظائرَهم مِن بني آدم؟ ولو بالقتل، ولو بالعُدوان، ولو بالظُّلْم، ولو بالتَّحَيُّلِ، ولو بالخديعة، وظنُّوا أنهم بذلك يُدركونَ الآمالَ فاضمحَلُّوا وآمالُهم، ومَن قتَل ومَن قُتِل، ومَن آذَى ومَن أوذي؛ فوقفوا بين يديَّ اليومَ.. فلِمَن المُلْك؟ أين أوصلَتهُم ظنونُهم؟ أين أوصلَتهُم أوهامُهم؟ ماذا حقَّقوا مِن آمالِهم؟!
وما أصغرَ الذين انحصرَت آمالُهم في شهواتِ البطونِ والفروجِ ولم يُدرِكُوا سِرَّ الارتقاءِ للأرواحِ والعُروج، ولم يُفَكِّروا في الانتقالِ والخروج؛ ما أقصرَ عقولَهم، ما أقصرَ فكرَهم، ما أقَلَّ نظرَهم، وما أسوءَ أحوالَهم {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} تعالى الذي يجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه.
العِزُّ أمامَه! العظَمَةُ أمامَه! هو بالإسلام والإيمان أقربُ إلى هذا الرَّبِّ إذا دعاه؛ ولكن فيهم طوائف كما قال الجَبَّار: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وصنفٌ من هؤلاء يرجعُ البلاءُ عليهم أن تنفتحَ لهم مظاهرُ مما يطلبون مِن المحسوسات حتى يبلغُوا منها ما يقرُبوا من غاياتهم فتنتهي وتضمحل {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}.
"أخذناهم" يقول، وهل غيرهُ يأخذ؟ هل غيره يُحيي؟ هل غيره يُميت؟ راحوا.. كأفراد وجماعات، حتى في زماننا.. كم من واحد ينطبقُ عليه الأخذُ بغتة؟
حتى إذا امتلأوا بِشْرَاً بمَا ظَفِروا ... ومُكِّنوا مِن عُلَاها أبْلَغَ المِكَنِ
ناداهمُ هِادِمُ اللذَّات فاقتحموا ... سُبلَ المماتِ فأضحَوا عبرةَ الفِطَنِ
تلك القبورُ وقد صاروا بها رِمَمَاً ... بعد الضخامةِ في الأجسَامِ والسِّمَنِ
بعد التَّشَهِّي وأكل الطيِّبَاتِ غداً ... يأكلُهم الدُّودُ تحتَ التُّرْبِ واللَّبِنِ
تغيَّرَت منهم الألوان وانمحَقَت ... محاسِنُ الوجهِ والعينين والوَجَنِ
وعافَهم كُلُّ مَن قد كانَ يألفُهم ... من الأقَاربِ والأهلين والخَدَنِ
تلك القصور وتلك الدُّور خاويةٌ ... يصيحُ فيها غُرَابُ البَيْنِ بالوَهِنِ
أخَذ بغتة.. أخذ بغتةً طوائف، أخذ بغتةً دولاً، أخذ بغتة ملوكاً، أخذ بغتة شعوباً، أخذ بغتة أفراداً، أخذ بغتة جماعات {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيراً}.
اليوم هذا.. كم مِن مأخوذٍ بغتةً في شرقِ الأرض ومغاربِها؟ كان يظنُّ أنَّه يَصِلُ إلى مقصدٍ وإلى غرضٍ وإلى مأربٍ فأُخِذ واُختِطفَت روحُه هذا اليوم، بسبب ظاهر وبغير سببٍ ظاهر.. وكلُّ الأيام تمرُّ على الناس وحالُهم هكذا وقلوبُهم غافلة وعقولُهم ذاهلة.
وتَثَبَّطَ المُتَشَكِّكُون فكأنهم ليسوا هنا ... سُحْقَاً لِمَن يَشُكُّ في الحَقِّ وقد تَبَيَّنَا
والأغرب؛ مِن أهل المِلَّة يضيِّعون حقائقَ الدعاء! وحقائقَ الخوفِ والرجاء، وحسنَ الالتجاءِ إلى ربِّ الأرض والسماء! مغترِّين بأقاويلَ جاءَت مِن هذا ومن ذاك!
ومَن ذا وذاك؟ ذا وذاك الذي اغترُّوا به لا فيهم مُرسَل ولا فيهم نبي ولا فيهم مؤمن بالله! ولا فيهم صاحبُ قلب رحيم يرحمُ عبادَ الله كما ينبغي! واغترُّوا بأقاويلهم!
ووحيُ ربِّك؟ وبلاغُ رسولِه؟ وكلام أنبيائه؟ ما لك به تأثُّر؟ ما لك به تَنَوُّر؟ فكيف تتطهَّر؟ كيف تَتنقَّى؟!
فنِعْمَ الاستنادُ إلى الرَّب، نادوا قلوبَكم لتَستندَ إليه، لتُعوِّل عليه، لتَتذلَّلَ بين يديه، لتَصدقَ معه، تنالوا الرِّبحَ الأكبر والكنز الأفخر، واطلبوه أن يهديَ عباده، وسيهدي كثيراً من عباده، فإن تسَبَّبتَ بدُعاءٍ ودعوة أُثِبْتَ وأُجِرْتَ ورُفِعْتَ وحُزْتَ المقامَ وحُزْتَ المَنزلة، وحُزْتَ النعيم، وإلا فهو يهدي مَن يشاء.. لكن تَسَبَّب.