الثبات - التاريخ الإسلامي
أهم أحداث السيرة في شهر ذو القعدة
عمرة القضاء
في ذي القعدة في السَّنة السَّابعة من الهجرة خرج الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى مكَّة قاصداً العمرة، كما اتَّفق مع قريشٍ في صلح الحديبية، وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النِّساء، والصِّبيان، ولم يتخلَّف من أهل الحديبية إلا مَنِ استُشْهِدَ في خيبر، أو مات قبل عمرة القضاء.
وقد اتَّجه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكَّة المكرَّمة في موكبٍ مهيبٍ يشقُّ طريقه عبر القرى، والبوادي، وكان كلَّما مرَّ الموكب النَّبويُّ بمنازل قومٍ من الذين يسكنون على جانبي الطَّريق بين مكَّة والمدينة؛ خرجوا، وشاهدوا منظراً لم يألفوه مِنْ قبلُ، حيث كان المسلمون بزيٍّ واحدٍ من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتَّلبية، ويسوقون هديهم في علاماته، وقلائده، في مظهرٍ بهيٍّ لم تشهد المنطقة له مثيلاً.
أولاً: الحيطة والحذر من غدر قريش
اصطحب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معه السِّلاح الكامل، ولم يقتصر على السُّيوف، تحسُّباً لكلِّ طارئ قـد يقع، خاصَّةً وأنَّ المشركين في الغالب لا يحافظون على عهدٍ قطعوه، ولا عَقْدٍ عقدوه.
وما إن وصل خبر مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعه هذا العدد الضَّخم، وهذه الأسلحة المتنوِّعة، وفي مقدِّمة القافلة مئتا فارسٍ بقيادة محمَّد بن مسلمة، حتَّى أرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكرز بن حفص في نفرٍ من قريش؛ ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوه في بطن يأجُج بمرِّ الظَّهران فقالوا له: يا محمد! والله ما عرفناك صغيراً، ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسِّلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا على العهد، وأنَّه لن يدخل الحرم غير السُّيوف في أغمادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ندخلها إلا كذلك" ثمَّ رجع مكْرَزُ مسرعاً بأصحابه إلى مكَّة، فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاح، وهو على الشَّرط؛ الَّذي شرط لكم.
ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم السِّلاح خارج الحرم قريباً منه تحسُّباً لكلِّ طارئ، وأبقى عنده مئتي فارسٍ بقيادة محمَّد بن مسلمة يحرسونه، وينتظرون أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم ليتحرَّكوا في أيِّ جهةٍ، وينفِّذوا أيَّ أمرٍ، ويقاتلوا متى دعتِ الضَّرورة لذلك.
إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمن غـدر مشركي قريش، وخيانتهم، فقد تُسوِّل لهم أنفسُهم أن ينصبوا كميناً، أو أكثر للمسلمين، ويشنُّوا عليهم هجوماً مباغتاً، ولذلك احتاط، وأخذ الحـذر، ووفَّى بعهده، ووعـده لقريش، وعلَّم الأمَّة لكي تحذر من أعدائها، وفي بقاء كوكبةٍ من الصَّحابة في حراسة الأسلحة، والعتاد؛ لكي يراقبوا الموقف بدقَّةٍ، وتحفُّزٍ معنىً من معاني العبادة في هذا الدِّين.
ثانياً: دخول مكَّة، والطَّواف، والسَّعي
ومن بطن يأجج تابع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيره نحو مكَّة على راحلته القصواء، فدخلها من الثَّنيَّة الَّتي تطلعه على الحجون، والمسلمون حوله متوشِّحون سيوفهم، محدقون به من كلِّ جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيءٍ، وأصواتهم تعجُّ بالتَّلبية لله العليِّ الكبير.
هذه التَّلبية الجماعيَّة الَّتي تعجُّ أصوات المسلمين بها، والَّتي لم تنقطع منذ أن أحرموا، واستمرَّت حتَّى دخلوا مكَّة، فقد كان للتَّلبية مغزىً ومعنىً، فهي تعلن التَّوحيد، وترفع شعاره، وتعني إبطال الشِّرك، وإسقاط رايته، وتعلن الحمد، والثَّناء على الله الَّذي مكَّنهم من أداء هذا النُّسك. فهذه بعض معاني تلبية المسلم بقوله: لبيك اللّهُمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمد، والنِّعمة لكَ والمُلك، لا شريك لك.
وكان عبد الله بن رواحة اخذاً بزمام راحلته، وهو يرتجز بشعره:
خَلُّوا بَنِي الكُفّارِ عَنْ سَبِيْلِهِ ... خَلُّوا فكلُّ الخَيْرِ في رَسُوْلِهِ
يَا رَبِّ إنِّي مؤمنٌ بِقِيْلِهِ ... أَعْرِفُ حقَّ اللهِ في قَبُوْلِهِ
ضَرْباً يُزِيْلُ الهَامَ عَنْ مَقِيْلِهِ ... وَيُذْهِلُ الخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ
وكان مظهراً دعويّاً مؤثِّراً عندما بدأ الموكب النَّبويُّ الكريم يقترب من بيوت مكَّة المكرَّمة، وأبنيتها، شاقّاً طريقه باتِّجاه الكعبة المشرَّفة، وهم في مظهرهم المَهِيْب، وأصواتُهم تشقُّ عَنان السَّماء بالتَّلبية، فقد ذكرت معظم كتب السِّير، والمغازي: أنَّ قسماً من أهالي مكَّة خرج إلى رؤوس الجبال لينظر إلى المسلمين من الأماكن العالية، والقسم الأكبر وقف عند دار النَّدوة المجاورة للكعبة الشَّريفة انذاك؛ ليشاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الكرام أثناء دخولهم مكَّة المكرَّمة، وبيت الله الحرام.
وكان المشركون قد أطلقوا شائعةً ضدَّ المسلمين مفادها: أنَّهم وهنتهم حُمَّى يثرب، فأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرمُلوا في الأشواط الثَّلاثة، وأن يمشوا ما بين الرُّكنين؛ لكي يرى المشركون قوَّتهم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام، واضطبع بردائه فأخرج عضده اليُمنى وشرع في الطَّواف، وأصحابه يتابعونه، ويقتدون به، ولما رأى المشركون ذلك؛ قالوا: هؤلاء الَّذين زعمتم أنَّ الحمَّى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد مِنْ كذا، وكذا!.
وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الطَّريقة الَّتي فعلها عند دخوله المسجد الحرام، وهي الاضطباع، والهرولة، ورفع الأصوات بالتَّلبية أن يُرهِب قريشاً، وأن يُظهر لها قوَّة المسلمين، وعزيمتهم، وتمسُّكهم بدينهم، ومناعة جبهتهم.
وقد أثَّر هذا الأسلوب في نفوس المشركين وبهذا الأسلوب النَّبويِّ الكريم أغاظ الرَّسول صلى الله عليه وسلم المشركين، وكايدهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتقرَّب إلى الله بمكايدتهم، وإغاظتهم، ففي غزوة أحد أذن صلى الله عليه وسلم لأبي دُجانة أن يمشي متبختراً أمام المشركين لإظهار عزَّة المؤمن؛ ولأنَّ ذلك يَغِيْظُ المشركين، وزيادةً في إغاظتهم كان يلبس العصابة الحمراء دون أن ينكر الرَّسول صلى الله عليه وسلم ذلك. وفي غزوة الحديبية ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدي جمل أبي جهل الَّذي غنمه في بدرٍ؛ ليراه المشركون، فيزدادوا غيظاً حين يذكرون مصارع قتلاهم، وذلَّ أسراهم، وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين في عمرة القضاء بإظهار التَّجلُّد، والهرولة؛ لإغاظتهم، ومكايدتهم، وردِّ كيدهم في نحورهم، وقد ذكر ابن القيِّم: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكيد المشركين بكلِّ ما يستطيع».
فهذه حربٌ نفسيَّةٌ شنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين، وقد اتت أكُلَها، ولقد أقام الرَّسول صلى الله عليه وسلم في مكَّة ثلاثة أيام، ومعه المسلمون يرفعون راية التَّوحيد، ويطوفون بالبيت العتيق، ويرفعون الأذان، ويقيمون الصَّلاة، ويصلِّي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلوات الخمس في جماعة، وكان بلالُ بن رباح رضي الله عنه بصوته النَّديِّ يرفع الأذان من فوق ظهر الكعبة، فكان وقعه على المشركين كالصَّاعقة.
ولم ينسَ صلى الله عليه وسلم مجموعة الحراسة الَّتي كانت تحرس الأسلحة، والعتاد بأن يرسل من يقوم بمهمَّتهم ممَّن طاف، وسعى مكانهم ويأتي هؤلاء ليؤدُّوا النُّسك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع نفوسٍ يدرك حقيقة شوقها لبيت الله الحرام، وما جاءت للمرَّة الثانية، وقطعت هذه المسافة الشَّاسعة إلا لتنال هذا الشَّرف، وتَبُلَّ هذا الظَّمأ، فتطوف مع الطَّائفين، وتسعى مع السَّاعين، فعمل صلى الله عليه وسلم على مراعاة النُّفوس، وساعدها ولبَّى مطالبها من أجل إصلاحها والرُّقيِّ بها؛ إنَّه من منهج النُّبوَّة في التَّربية.