الثبات - مقالات فكرية
المرأة في مدرسـة حضرموت
الداعية الحبيب عمر بن حفيظ
بفضلِ الكريمِ الوهَّاب تنفتحُ الأبواب، ونجتمعُ في هذه الرِّحاب في ِتَجدُّداتٍ لِوَهبِ الوهَّاب، واتصالاتٍ بأسرارِ الكتاب، واستزادةٍ مِن مَدَارِك مَعَاني الخِطاب، واتصالٍ بِعَالِ الجَنَاب نَجِدُهُ العُدَّةَ العُظمَى لدار المئاب، في تَجَدُّدٍ لهذه الجُهود والمُعطياتِ التي يتجدَّدُ لها بَذرٌ مِن بَذر، وكُلّ بَذرٍ يَظهَرُ له ثِمارُ، وعظيم آثارٍ، تَعمُّ الأقطار، بدايةً مِن هجرة المختارِ إلى هجرةِ سيدِنا الإمامِ المهاجرِ إلى الله أحمد بن عيسى.
مكانةَ المرأة وقوَّتَها في الصلاح والفساد، وفي الخير والشر، وفي الهدى والضلال، المكانةُ لها قويةً جداً، والتأثير لها قويٌّ جداً، وجاءتِ التَّشَدُّقاتُ فيما يتعلّق بذلك وأنواع الاتجاهات، ونَقِفُ أمامَ شرفِ ما كان مِن مِثلِ مدرسـةِ حضرموت، وكلِّ مدرسـةٍ مُسلِمةٍ صادقةٍ مُخلِصَة، تَخلَّت عن دواعي الأهواءِ والشهوات، ولهم الشَّرفُ والفخرُ بذلك، نَجِدُ أنَّ شأنَهم مع المرأة كما تبيَّنَ في مدرسـةِ حضرموتِ شأنٌ سامٍ بمعانِي السُّمُوِّ العالي، في هذه النُّقـطـة، وإن كان كغيرها، ولكن فيها على وجهِ الخصوص بِشُموليَّةٍ تتلاءمُ مع شموليةِ الخِطابِ الإلهي، والرِّسالةِ المحمدية، فما نَجِد ناحيةً مِن نواحي الحياة، إلا وللمرأةِ في مدرسـةِ حضرموت مكانةٌ ومنزلةٌ ودورٌ تقومُ به .
مدرسـةُ حضرموتَ امتلأت بالنِّساءِ المُوزَّعاتِ على المقاصدِ الكُبرى في الحياة، وعلى أنواعِ مهمَّاتِ الحياة توزيعاً حَسَناً مُتلائماً مع الفطرة، مع الوحي، مع الشريعـة، متلائماً مع العقلِ السليمِ الموجودِ في القلبِ السليم. هذا التلاؤم جعل في مدرسـة حضرموت جانِباً كلُّنا نَعرفه:
المرأةُ العالمـة، المرأةُ المُعَلِّـمة، المرأةُ المربِّية، المرأةُ الواعظة، المرأةُ الشاعرة، المرأة الكاتبة، موجود في مدرسـة حضرموت، ولكن: في مدرسـة حضرموت : المرأة المُزارعـة، ولكنها في زراعتِها تواصلت مع قِيَمِها وشِيَمِها تواصلاً ما أخلَّ بشيءٍ مِن كرامتِها ولا عِزَّتِها.
المرأةُ البائعـةُ في مدرسة حضرموتَ، مَدْرَسةٌ فيها المرأةُ البائعـةُ والمُشتَرِيَة، لكن بيعاً وشراءً ما بِعنَ به شيئاً مِن كرامتِهنَّ ولا مِن شرفهِنَّ، ولا استُبْذِلنَ، ولا جُعِلَ مَحَطُّ بيعِهنَّ وشرائهنَّ غابةً لوحوشِ السوء والشر، ولا متاعاً رخيصاً لِمُتعةِ أهلِ المرضِ القلبي : {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ }[الأحزاب:32].
كانت المرأةُ التي تصعدُ النخلةَ الطويلةَ الصعبةَ التي كثيرٌ مِن شبابِ اليوم مِن أهلِ المِهنِ لا يستطيعُ ذلك. على امتداد هذا الوادي كان للمرأة عجائبُ في هذا الشأن، كان للمرأة حضورٌ في ميادينِ الحياةِ المُختلفـة، ما وجَدنا الدعواتِ التي جاءت مُقنَّعةً بأقنعـةِ صالحِ المرأةِ إلا طالبةً استنقاصَ المرأة أو تقريبَها لمُتعةِ الرجلِ الشاذِّ الفاسدِ، لمُتعةِ الرَّجلِ الشَّهواني، وكلُّ مقايِيسِهم لتقدُّمِ المرأةِ أن تكونَ سهلـةً لِمُتعةِ ذلك الشهوانيِّ من الرجال، فإذا كانت كذلك فهي المُتقدِّمـة وهي المتطوِّرة بزيِّها وبأسلوبِها في الكلام، وباستعمالها للأجهزة وفي طريقـة استعمالها .. مادامت أقربَ إلى أن يقضيَ الرجلُ بل الذكر وليس بِرَجُل، بل ذكرٌ شهوانيٌّ حيوانيٌّ في صورةِ إنسانِ أن يقضيَ مأربَه منها، فهذا مقياسٌ عند بعضِ أهلِ الحضارات أنها تفتَّحت وتحرَّرت وتقدَّمت لأنَّها صارت رخيصةً له ليَقضيَ منها الأرب.
سمَّاها الأمينة أو السكرتيرة في شيء من الجوانب، أيامَ نضارةِ شبابِها وتحصيلِ مُتعَـتِه منها ولو بالنظر أو بإخضاعِ القولِ وسطَ مجتمعاتِ هذا الانحلال والانحطاط والتَّـبجُّحِ بحقوقِ المرأة، وبمجرَّدِ أن تتشوَّهَ أو يكبُر سِنُّها هي مرغوبٌ عنها في سكرتاريته وفي مكتبه، هو يريد غيرها، هو يلتفتُ إلى سواها، لا لأن سواها أعلم، ولا لأنَّها أحكم، ولكن لكَونِ منظَرِها أغنمَ لشَهوتِه الخبيثـة.
هذا ما عندهم، وهذا الذي يحكيهِ واقعُهم، فما كان مِن عندهم إلا خيانـةٌ بشأنِ المرأة سَمَّوه تحريراً لها، وهو تخسير لها وإفسادٌ لها وإذلال لها بكلِّ المعاني والمقاييس، قد لا ينتهِي إلى وضوحِ هذه الحقيقـة إلا متأمِّلٌ فاحصٌ أو مَن جرَّب بعد مدة، أو بعدَ أن تنتهِي سَكرتُها مِن رنَّاتِ الأقوالِ الباطلةِ الكاذبـة ترجع إلى الفحص السليم في حالِها فتقول: كذبوا عليَّ وخدَعوني.
وكبار النساء في مجتمعات الانحلال وفي مجتمعاتِ التّبرُّجِ اليوم يقُلنَ هذا الكلام، كبارُ النساء المُنصفاتِ يعلَمنَ أنَّ الحضارةَ المزعومـة َخدعَهتنَّ وكذبَت عليهنَّ، وسيَّبت خصائصَهن الكريمةَ الكبيرةَ في إنسانيَّتِهنَّ، في فطرةِ بيوتِهنَّ وأُسَرَهنَّ، الزوجـة، الأم بمعانيها الواسعـة الكبيرة فقدَتها تلك المرأة التي أُغريَت بمجرَّد التَّشبُّهِ بالرجال أو التذلُّل لمُراد شهواتِها، وأُثنيَ عليها مهما كشَّفت محاسنَها لتفتنَ وتُفسِدَ المجتمع، وجرَّ ذلك إلى المجتمعِ أنواعاً من الفساد .
لكنَّا وجدنا المرأة في مدرسـة حضرموت صاحبةَ مهنة، صاحبة حِرفـة، صاحبة خياطة، صاحبة صناعـةٍ لأنواعٍ مِن الأدوات التي تُصنَع، صاحبة مرجعيّةٍ عند ربِّ كلِّ أسرة في مدرسـةِ حضرموت لمّا ترجع إلى كبيرها مِن السُّنَّـةِ المُتّبعةِ والأمرِ المُسَلَّم الواضح أنَّ شأنَ الجَدَّةِ عليٌّ جداً، ورأيُها مُعتبرٌ في كل ما يجري في البيت، والأمُّ مِن بعدها والأختُ مِن بعدها والبنت تأتي من بعد، يتخلَّل ذلك ما يكون بينهنَّ بحُكمِ السِّنِّ أيضاً من الرجال الموجودين، في امتزاجٍ عجيبٍ يُعرَف به إنزالُ كلٍّ في منزلتِه، حتى يحتكمَ نظامُ الأسرة وسطَ البيت، فلا ينفردُ بالقرار استحواذاً فيه أحدٌ دون مرجعيـاتٍ على حسبِ القضيةِ التي يتداولونَها أو تقومُ في بيتِهم، في أيِّ المناسباتِ كنَّا نَعْهَدُ هذا، ونعهد أنواعاً مِن التقديرِ والاحترامِ لكبيراتِ السِّنِّ وسطَ البيوت، وشأن أولادهنَّ معهنَّ، بل وشأنُ أزواجهنَّ معهم، بل وجدنا معانياً واسعـةً مِن إكرام الآباء لبناتِهم، فمع كونِهم يرشدونهنَّ كم يسترشدُون أحياناً بنظرِهنّ أو برأيِهنَّ أو بفكرِهنَّ فيما زاولناهُ أو حييناه في هذه المدرسة.
وحَيينا في هذه المدرسة أنَّ أكابرَنا الذين أدركناهم وعرفنَاهم سواءً المسمَّاة باسمِه القاعـة الحبيب عبدالقادر بن أحمد السقاف، أو سيدي الوالد أو الشيابة الذين أدركتُهم، كان في منهجِ مدرستِهم كبيراتُ السِّن وذواتُ الصلاح محلُّ زيارتهم ومحلُّ طلبِ الدعاء، ومحلُّ الاستشارةِ في بعضِ الأمورِ المهمَّة المتعلِّقةِ بشأنِ عمومِ المجتمع، ومحلُّ طلبِ الإجازةِ لمَن اتصلَت بمَن لم يتَّصلوا به.. رأيناهم وشاهدناهم بهذا الحال.
في معاني من هذا الإكرام للمرأة في مدرسـة حضرموت زاولَت أنواعَ المِهَن، ولم تُمْتَهن، زاولَت أنواع الحِرَف ولم تنحرف، ولم يجد المنحرفُ سبيلاً لأن يستهزئَ بها أو يحُطَّ مِن كرامتِها أو شَرفِها عليهنَّ رضوانُ الله تبارك وتعالى، ولكن هذا لا يُعجبُ أربابَ الحضارات، يريدُ امرأةً تكون مزارِعـةً له، تكون مزارعةً ومزارعةً له أيضا، تكون مزارعةً ومتكشِّفة، وهكذا، وتكون بائعـةً وبائعةً عِرضِها، أما أن تكون بائعـةً للبضائع في حشمة فما يعجبُهم ولا يروقُ لهم هذا، بل يقولون عنها: مُتَشدِّدة، ومُتخلِّفـة، حتى لو أتقنَت الصِّنعة ولم تتكشَّف له، ولم تُعطِه رغبةَ عينِه وهواه، فيصفُها بأنها مُتخلِّفـة ومتشدِّدة.
فهذه الحقيقة، في واقع الحياة أفادَت المجتمع وأفادَت الواقعَ ونفعَت أحسنَ مِن نفعِك ونفعِ كثيرٍ مِن أمثالِك على ظهرِ الأرض، لكن البُعد عن الحقائقِ والضحكِ على الناس بهذه العناوينِ وهذه الشعارات التي هي لعبٌ بالناسِ كثير، نحتاج أن ندرسَ مدرسـةَ حضرموتَ في نواحيها، والناحية هذه المهمة الكبيرة التي عرفناها وعرفنا بها من كنَّ يشتهِرنَ ببعضِ المِهَن والحرف. لا تجد عينُ الخائنِ سبيلاً لأن تجدَ رغبتَها الخسيسة، ولا إثارة للشهوة قطّ من قريبٍ ولا مِن بعيد، ويتعمَّدنَ عند خروجِ الخارجاتِ منهن، ومنهنَّ القواعد من النِّساء اللاتي لا يرجون نكاحاً متقيِّدات بباقي الآية : {.. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ }[ النور:60]. كُنَّ مِن أبعدِ الناسِ عن الزيـنةِ عند خروجِهن إلى أماكن مِهَنهِنَّ وحِرَفهن، سواءً كانت تشتغلُ بالزراعـة أو بالطَّحن أو بتغسيلِ الملابس أو غير ذلك، ما يجد إبليسُ سبباً لإثارة شهوةِ السوءِ أبداً عبر هذه، ولا تجدُ العينُ الخائنة مُتعتَها الساقطةَ أمامَ هذه قط، نوعُ لباسِها وبحشمته وبطريقة أسلوبها وبمخاطبتها وبكلامها وبأسلوبها في الخطاب تحت إرشادات رَبٍّ يقول : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، إذا كان أجنبيا، وخصوصاً إذا كان غيرَ معروف أو تشكُّ في حُسنِ صدقِه تعرف كيف تتخاطبُ معه.
وكنا نعهدُ نساءً يسألنَ أكابرَنا وخيارَنا في مسائلَ تتعلقُ بشؤونهِنَّ الخاصـة، أو بشئونهنَّ الشرعيـة، فتتكلم مع هذا العالمِ التَّقيِّ الخاضعِ مِن وراءِ حجابٍ واضعـةً يدَها على فمِها لتسألَ عالماً صالحاً شائباً لا يلتفتُ إليها ولا يسمع نغمةَ صوتها ليثيرَ شيئاً من شهواته، ولكن مع ذلك تكلمه تحت : {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}، أتقنَّ التطبيقَ، فتضع يدَها على فمِها وتكلمه، لكي لا يظهر صوتُها الطبيعي، حتى لا يعرف صوتَها لو سمع صوتَها المعتاد.
وما كان هذا احتقاراً لعُلمائنا وكبارِنا، ولا كان احتقاراً للنساء، بل كان والله حقيقة الكرامة، لكن ينازعوننا اليوم فيقولون: إنَّ الكرامةَ التي أقرَّها اللهُ ورسولُه، أخرجوا من هذا الميزان وخذوا ميزانَنا! ليست هذه كرامة، وإن ما يُدنِي إلى الشرِّ حسنٌ ليس فيه سوء، أبعدُوا ميزانَكم أن فيه سوء، الميزان الذي أخذناه ما أخذناه مِن بَشَرٍ مِثلِكم حتى نتخاطب وإياكم فيه، بِبشريَّتِكم وحدها أدرِكوا أننا آمنا بالله، فبميزانِكم الذي تدَّعونه (حرية الأديان): احترموا دينَنا، عندنا ميزان مِن عند الله لا يقبل أن يُحَطَّ مِن أجلِ ميزانِ مخلوق، إن أنت لم تؤمن بالله الذي خلقني وخلقكَ فلتكُن ما تكون، كيف تفرِض عليَّ أن أُخِلَ بإيماني بهذا الإله، وأن أُغيِّر موازينَ ربي لِما أوقِنُ أنَّ كلَّ ميزانٍ مخالفٌ له ففيه قصور، وفيه فتور، وفيه محذور.
كيف صار الخِطاب بهذه الصورة!؟ لكن أُستِخفّ بالمسلمين لـمَّا استخفَّ المسلمون بإسلامهم، أُستِخفَ بالمسلمين لـمَّا استخفَّ المسلمون بإسلامهم، لمّا استخفوا بأوامرِ ربِّهم استُخِفَّ بهم من قِبل عدوِّهم وسُلِّطَ عليهم ذُلاًّ لم يُنزع مِنهم حتى يعودوا إلى دينهم.
أمثال هذه الحلقات تُعيدُنا إلى حقائقِ الدين ووعيِ وإدراكِ حالِ المرأةِ وحكمةِ الله أن جعلنا سبحانه وتعالى جنسَين، وجعلنا سبحانه وتعالى ذكراً وأنثى، وابتدأ الخلقَ بهذا، ونشر هذا في بقيةِ الكائنات {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات:49] جل جلاله وتعالى في علاه، وبقي هو المنفرد الواحد الأحد الذي لا مِثلَ له.
مثلُ هذه الحلقات تُنَوِّرُ القلوبَ والعقول فتطهِّرها على الحقيقة وتُحررها على الحقيقة مِن رِقِّ الخليقةِ لتسعدَ بالرِّق، رِقِّ الشرف والكرامة لمَن هي مخلوقة له ورقيقة، وهو الخالق جل جلاله وتعالى في علاه، وهي أسرارُ لا إله إلا الله محمدٌ رسولُ الله تُوصِلنا إلى حقيقةِ التحرُّر والتطهُّر والتنوُّر.
بارك اللهُ في هذه الحلقات، وأعظَمَ ما فيها مِن خيراتٍ وثمرات، وجعل لها واسعاً مِن انتشارِ الثمراتِ الطيباتِ في الظواهرِ والخفيَّاتِ، في مجتمعِنا وخطابِ الأمةِ أجمع، هدانا الله فيمَن هدى، وثبَّتنا على مسلك الهداه وأصلحَ لنا ما خفيَ وما بدا، وكان لنا بما هو أهلُه هنا وغدا، إنه أكرمُ الأكرمينَ وأرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.