الثبات - مقالات فكرية
البوابة التي دخل منها الصحابة إلى فتح مكة
العلامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
لقد دأب كثيرٌ من المسلمين أن يتحدثوا في هذا الشهر المبارك وفي هذه الأيام الخاصة منه عن بطولتين عظيمتين توَّج الله سبحانه وتعالى بهما تاريخ هذه الأمة:
أولاهما: تلك البطولة التي أكرم الله بها المسلمين في غزوة بدر
الثانية: تلك التي أكرم الله المسلمين بها في فتح مكة، وليست هذه الذكرى ولا الحديث عنها مبعث نقد، ولكن المسألة تتعلق بكيفية التحدث عن هذه الذكريات.
كثيرا من المسلمين يتحدثون في هذا الشهر المبارك عن هذه البطولات الإسلامية التي أكرم الله عز وجل بها الرعيل الأول من هذه الأمة بطريقة تجعلهم يستشعرون بالعوض عن الذل الذي حاق بهم، وتجعلهم يستشعرون بأن المكرمة التي أكرم الله بها آبائهم أو أجدادهم ساريةٌ إليهم أيضاً، ثم إنهم يتفرقون عن الحديث عن هذه البطولات وكأنهم أخذوا منها غذاءً لأنفسهم، وكأنهم أخذوا منها ما يعوضهم عن الذل الذي حاق بهم، والمهانة التي تطوف في حياتهم.
والحديث عن ذكريات المسلمين وبطولاتهم بهذا الشكل حديثٌ خطير وطريقة جانحة لا يقرها منطق ولا يؤيدها دين. ينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أكرم هذه الأمة بنعمةٍ إلا وقد دفعت ثمن هذه النعمة، وينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ما توّج حياة سلف هذه الأمة بالبطولات التي نتحدث عنها إلا لأنهم شدوا أنفسهم إلى حيث أصبحوا أهلاً لتلك البطولات، فماذا عسى أن يفيدنا الحديث عن فتح مكة أو عن غزوة بدر أو عن غيرهما ونحن هابطون إلى الدرك الأسفل من الذل والمهانة، راضون بهذه الحالة التي حاقت بنا؛ نتخبط في أودية التيه تخبط الإنسان الذي يتحرك في ظلامٍ دامس، وليس أمامه أي قبس من النور يستضيء به.
الحديث عن هذه البطولات مفيد مفيدٌ جداً إذا كان الهدف من وراء ذلك أن نأخذَ العبرة أن نعلم المغارم التي دفعها أولئك المسلمون حتى وصلوا من وراء ذلك إلى تلك المغانم، الحديث عن هذه الذكريات مفيدٌ جداً إذا أخذنا منها العبر لأنفسنا فسلكنا مسالك أولئك الناس، أولئك السلف الصالح، وسرنا وراء خطاهم وتتبعنا السير الذي كانوا يسيرون، هذا العمل مفيدٌ جداً، ذلك لأن النهج هو الذي سيعيد إلينا هذه المكرمة التي أكرم الله بنا أجدادنا السالفين السابقين.
الحديث عن فتح مكة حديث يبعث النشوة في الرؤوس فعلاً، وحديثٌ يبعث الطرب في العقول، ولكن ماذا عسى أن تفيدنا هذه النشوة؟ وماذا عسى أن يفيدنا هذا الطرب؟ مهما كانت ذكريات فتح مكة عظيمةً باعثةً للنشوة في النفس فإن غصص المهانة التي نعاني منها متغلبة على ذلك، ولكن بوسعنا أن نستفيد شيئاً آخر غير النشوة والطرب اللذين يركن إليهما كثيرٌ من الذين يتكلمون ومن البلغاء الذين يخطبون، هنالك شيءٌ آخر مفيدٌ فعلاً هو أن نتساءل: كيف كان فتح مكة؟ وما هي البوابة العريضة التي دخل منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الفتح؟ إذا تسائلنا عن هذا الأمر ووعينا الجواب عنه وعاهدنا الله عز وجل أن نفعل ما فعل أولئك الناس، فلا شك أننا سنعود بربحٍ كبيرٍ جداً، ونحن إذا تأملنا في هذه البوابة التي وصل منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفتح في هذا الشهر المبارك، سنجد أن هذه البوابة تتمثل في شيء واحد، هو انتصار أولئك المسلمين على أنفسهم. في حين أن كثيراً من المسلمين يتصورون أن هذه البوابة تتمثل في انتصار المسلمين لأنفسهم، وفرقٌ كبير كبيرٌ جداً بين أن يسعى الإنسان لكي ينتصر على نفسه وبين أن يسعى لينتصر لنفسه.
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توّجهم الله بتلك البطولة وما خضع المشركون هذا الخضوع لهم وهم يدخلون زرافاتٍ ووحدانٍ إلى مكة، وما أدخل مهابة المسلمين في قلوب أولئك المشركين إلا بعد أن نجح أولئك المسلمون في انتصارهم على أنفسهم. متى انتصر أولئك المسلمون على أنفسهم؟ متى سحقوها تحت أقدامهم؟
يوم صلح الحديبية، ذلك الصلح الذي جعل الله عزوجل منه التمهيد الكبير لفتح مكة، بل ذلك الصلح الذي سماه الله سبحانه وتعالى فتحاً ألم يقل: "إنا فتحنا لك فنحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً" متى نزل هذا الكلام؟ نزل يوم صلح الحديبية، إذن من المعني بالفتح صلح الحديبية، وصلح الحديبية لم يكن فتحاً لحصن ولا اقتحاماً لأسوار بلد، ولكنه كان شيئاً أعظم من ذلك. كان صلح الحديبية يتمثل في انتصار أولئك المسلمين على أنفسهم وتساميهم على أهوائهم وشهواتهم بارك الله لهم ذلك الجهاد الأغر وسمّاهُ فتحاً، بل ذهب البيان الإلهي في التعبير عن هذا الصلح بالفتح مذهباً جعل فتح مكة يضئل ويتصاغر أمام هذا الصلح الذي سماه الله سبحانه وتعالى فتحاً. لماذا كان فتحاً؟ لأن المسلمين آنذاك انتصروا على أنفسهم، ظهر المشركون بمظهر المستكبر العاتي ووقفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف المتحدي كما تعلمون، وأملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شروطهم، وكان فيما نص عليه من تلك الشروط أن يرجع المسلمون في ذلك العام من منتصف طريقهم إلى مكة إلى المدينة المنورة دون أن يعتمروا ودون أن يحققوا أهدافهم السلمية وكان من جملة شرائطهم ألا يعودوا في العام الذي يأتي إلا وهم مجردون عن الأسلحة، ليس معهم إلا السيوف في أغمادها ولا يقيمون في مكة إلا ثلاثة أيام ثم يُرَحلونَ عنها، وكان من جملة شروطهم أن كل من تسرب من المشركين إلى المدينة مؤمناً فإن على المسلمين أن يعيدوه وألا يبقوه فيما بينهم، أما الذي يأتي من المدينة المنورة إلى مكة لاجئاً إليهم فلهم أن يرحبوا به ويقيموه فيما بينهم هذه الشروط كان فيها مهانة وأي مهانة لنفوس المسلمين، وكان فيها جرحٌ وأي جرح لمشاعرهم، ولكنها فتنة ابتلاهم الله عز وجل بها موقف وضعه الله أمامهم ووضعهم أمامه.
ترى هل سينتصرون في هذه الحالة بدافع من الرعونة لأنفسهم وقد مزجوا الإنتصار لله عز وجل مع الإنتصار للنفس، أم سيترفعون على أهوائهم ونفوسهم ويجندون كرامتهم وحظوظهم ونفوسهم ومبتغياتهم وأهوائهم يجندون ذلك كله لدين الله عز وجل وللمآل الذي ينتصر فيه دين الله سبحانه وتعالى، فتنة ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بها. فكيف كان موقف المسلمين بقيادة سيدنا رسول الله وبتعليمٍ وإرشادٍ منه لهم؟
كان موقف المسلمين بعد شيء من التلجلج والاضطراب الخضوع لأمر الله، والخضوع لما علمهم إياه رسول الله والخضوع للتربية التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي بكل تلك الشروط، رضي بكل تلك الترفعات ومظاهر العلو والاستكبار التي تجلت في مواقف أولئك المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، رضي رسول الله بهذا. لماذا رضي بهذا؟ لأنه نظر فوجد أن ثمن الفتح ثمن الانتصار لدين الله يكمن في هذا الرضى، يكمن في الرضى بأن تجرح النفوس، يكمن في أن يقبلوا في المهانة، يكمن في أن يقبلوا بالذل، ورب ذل كان هو التربة اليانعة للعز، ورب مهانة تبدو في ظاهر الأمر مهانة وهي في عاقبة الأمر عز.
هكذا ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وهكذا قال لهم: نعم الذي يأتي من مكة إلينا فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً، وأرض الله واسعة. أما الذي يذهب منا إليهم فلا رده الله، ماذا عسى أن نستفيد من إنسان رغب عنا ومال إلى غيرنا، وهكذا ربى رسول الله أصحابه، قبلوا عادوا من منتصف الطريق إلى المدينة، لم يعتمروا، لم تكتحل أعينهم بمرأى مكة والبيت الحرام كما كان يطيب لهم، قبلوا بالشروط التي فيها مهانة للنفس، لا للدين .. قبلوا بذلك كله محتسبين أجرهم عند الله، متجهين بهذا إلى نية صافية لمرضاة الله سبحانه وتعالى.
هذه هي البوابة التي أظفر الله المسلمين من ورائها بفتح مكة، ومن ثم سمى الله هذا التمهيد فتحاً كما لم يسم فتح مكة فتحاً عندما نتكلم عن فتح مكة في هذا الشهر، ونتحدث ببليغ الكلام عن دخول رسول الله مكة ومعه أصحابه من ثنية كداء ومن هنا وهناك، وعندما نتكلم ببليغ الكلام عن خشوع المشركين وذلهم أمام هيبة الداخلين إلى مكة نشوة في النفس، سرعان ما تتبدد لننظر إلى أنفسنا ونحن معلقون بأودية التيه والضلال والذل والمهانة، ولكن إذا أردنا أن نتحدث في هذا الشهر المبارك عن هذا الفتح فلنتحدث عن الثمن، فلنتحدث عن الجهاد الخفي الذي كان قبل ذلك والذي سماه الله فتحاً وأي فتح، سماه الله فتحاً مبيناً.
لقد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عائد في طريقه من صلح الحديبية إلى المدينة المنورة استدعى عمر وتلى عليه سورة الفتح التي نزلت بكاملها في ذلك اليوم. فقال عمر: أفتحٌ هو يا رسول الله. قال: نعم. أفكان موقفنا هذا فتحاً، الذي أظهرنا بمظهر الضعف، وظهر بمظهر الاستكانة أهو فتحٌ. قال: نعم هو فتح.
أيها الأخوة آن لنا أن نفرق بين الجهاد الذي ننتصر فيه على أنفسنا على أنفسنا ضد أنفسنا، والجهاد الذي ننتصر فيه لأنفسنا، ألا تلاحظون كم تداخلت الصور وكم تمازجت النيات والمشاعر، ألا تلاحظون هذا.
أما إن المسلم لن يرقى إلى درجة الربانية بحياته إلا بعد أن يكون رقيباً على نفسه يتبين الخيط الدقيق الذي يفصل بين قصده المتجه إلى مرضاة الله، قصده المتجه إلى خدمة دين الله وقصده الذي يتجه إلى إرواء غليله لإرواء ظمأ نفسه، ينبغي أن نفرق بين هاتين الحالتين، كما فرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورد في بعض الآثار أن علياً رضي الله تعالى عنه صارع أحد المشركين من زعانفة المشركين، فصعد سيدنا عليٌ رضي الله عنه فما كان من المشرك إلا أن بصق في وجه سيدنا علي الذي كان قد استعلى فوقه وصرعه ليقضي عليه، فما إن فعل المشرك هذا حتى قام عنه سيدنا علي، وعجب المشرك وسأله فيما فعلت ذلك؟ وقد أصبح الرجل تحت قبضة سيفه. قال كنت أصارعك بدافع من الانتصار لدين الله، فلما فعلت فعلتك اهتاجت عوامل الانتصار لنفسي، فخشيت أن يكون عملي انتصاراً للنفس، فابتعدت عما كنت قد عزمت عليه.
هذه القصة تجسد لنا واجباً ينبغي أن نقف أمامه لنطبقه، أما إن الجهاد الأعظم والأعظم والأعظم هو أن يبدأ المسلمون فيجاهدوا أنفسهم، يترفعوا فوق شوائب نفوسهم فإذا وصلوا إلى ما وصل إليه أولئك الربانيون أكرمناهم بالبطولة كما أكرمنا أولئك بالبطولة.
من خطب العلامة الشهيد في المسجد الأموي / دمشق