العبادة في رمضان .. بين الإفراط والتفريط

الإثنين 11 أيار , 2020 05:47 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

الثبات - إسلاميات 

 

العبادة في رمضان 

بين الإفراط والتفريط

 

 شهر رمضان موسم طاعات وعبادة في الأساس، وفيه الكثير من الفضل الذي اختصَّ اللهُ تعالى به هذا الشهر الكريم.

وبالتالي، فقد حقَّ لكل مسلم فيه أن يسعى إلى اغتنام الفرص والعطايا التي جعلها اللهُ تعالى في هذه الأيام المباركات، لعلنا لا نكون في هذه الدنيا عندما يعود الشهر الفضيل في العام القادم.

وكما علَّمنا اللهُ تعالى، وعلَّمنا رسوله الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فإنَّ كل شيء له ضوابطه وقواعده الناظمة، وأن الأمور لا تستقيم إلا بقَدَرِها، ولا تنجح إلا إذا ما وُضِعَت موضع التنفيذ السليم.

وفي حقيقة الأمر، فإننا أمام مجموعة من الظواهر التي تبرز فعلاً جريمة عدم تلقي الأجيال الأحدث العلوم الشرعية بالصورة الصحيحة، وغياب الثقافة الدينية، بالذات ثقافة العبادة بالصورة السليمة عن الأقنية الإعلامية والمحاضن التربوية العامة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

وهذه الظواهر -على الرغم من أنها قد تكون ناجمة عن حماسة دينية، إلا أنها في النهاية- تقود إلى بعض النتائج السلبية على قدرة المرء على الاستمرار في العبادة والأخذ بمتطلبات الشهر الفضيل.

ومن بين هذه الظواهر ما يتعلق بدعاتنا، نجد عدداً منهم لا ينتبه إلى واقع الحال المُعاش، أو إلى أنه يخاطب جمهوراً فيه شرائح عريضة لم تتطبَّع بكامل مفهوم التصور الإسلامي للحياة، والتعامل مع مفرداتها انطلاقاً من هذا التصوُّر.

فيعمدون إلى طرح منظومة من العبادات، قد لا تكون في طاقة الجميع، والأسوأ من ذلك، أنهم يقدمونها باعتبار مبدأ "إما الكل وإما فلا"، بمعنى أنَّه إذا لم يأتِ بها الإنسان كاملةً، فقد ضاع منه ثواب الشهر الكريم.

ويرافق ذلك نبرة فيها الكثير من القسوة على النفس، يعمل على إشعار المتلقِّي لهذه النوعية من الخطاب والنصائح، بأنَّه على قدر كبير من التقصير، وأنه مهما فعل، فلن يدرِك ثواب الشهر الفضيل.

قد يكون ذلك كله من صميم حياة المسلم في القرون التي مضت -عندما كان التصور الإسلامي حاكماً، وعندما كانت طبيعة الحياة، والنمط الذي اختاره السلف الصالح لأنفسهم، من الإمكانية بمكان لتطبيق ذلك- إلا أنَّه لا يتطابق مع أنماط العيش والثقافة الحالية كما تقدَّم.

ومن ثَمَّ، يحدث التفلُّت؛ فأنت عندما تضع أمام الإنسان ما لا طاقة له به، وتضغط على نقطة التقصير، فإنه في النهاية سوف يسأم ويمل منك على أقل تقدير، ما لم ينصرف عن العبادة بالكامل .

وهذا في الأصل خطأ، وليس من منهج الدعوة الإسلامية الصحيحة، فالإنسان مأجور على كل خيرٍ وفعْلٍ حسنٍ يأتيه -مهما كان صغيراً- ولدينا طائفة واسعة من التعاليم في هذا الصدد، منها منهج "سددوا وقاربوا" النبوي، والقاعدة الأصولية التي تقول بأنه "ما لا يُدرَك كله لا يُترَك كله".

وفقه الواقع باب واسع للغاية، والشريعة الإسلامية ما نزلت إلا لتنظيم الواقع في الأصل، وتغييره بالصورة الصحيحة، القائمة على مبادئ الاستطاعة والتدرُّج والملاءمة، وليس فرض أحكام جديدة بالكلية بشكل قسريٍّ.

والداعية في هذا الإطار، ينبغي عليه أن يدرك -بشكل عام، وليس فيما يخص رمضان فحسب- أنَّه في ظل ظروف العصر الحالي، فإنَّه لا يمارس الدعوة والإرشاد فحسب، وإنما أيضاً يحمل رسالة تغيير، وتغيير عميق، وبالتالي، فهو أمام عملية شاقة للغاية.

فالدعوة -إذا ما كانت في وسطٍ ملائم، فيه الحد الأدنى من السمات والمواصفات- يكون الخطاب الدعوي مقتصراً على التوجيه أو التعريف، أما في ظل أوضاع مجتمعاتنا الحالية مع سيادة أنماط ثقافية ومعرفية بعيدة عن التديُّن الصحيح، فإن الداعية يقف كذلك على مهمة التغيير.

وإننا إذ نتأمل بعض المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي، أو الكتيبات والرسائل الدعوية، نقف أمام الكثير من العجب، مثل أن البعض جعل للدعاء خمسين شرطاً لكي يصل إلى الله تعالى! وجعل لقراءة القرآن الكريم عشرات الأمور يقول إنَّه لا تصح القراءة إلا بها، ولا يُرفَع الثواب من دونها.

وفي هذا تألٍّ على اللهِ تعالى أولاً، وإدخال ما ليس من الدين فيه، فيمكننا أن نقبل أن هذه الأمور كانت اجتهاداً وتفانياً من جانب واضعيها، ولكن الأصل الشرعي، كما في القرآن الكريم والممارسة النبوية الصحيحة، يقف عند اشتراطات محدودة العدد، مثل طهارة البدن والملبس والمكان.

والتركيز على عبادة خواص الخواص، ليست هي الأصل الشرعي، وليست هي التي خاطب اللهُ تعالى بها الناس في قرآنه وشريعته ، والقول بغير ذلك يخالف القرآن الكريم، فعبادة الخواص وخواص الخواص لا يستطيعها الناس كلهم، وهذه بدهية يخبرنا بها تاريخ المسلمين وأحوال مجتمعاتهم في الأزمنة التي كان فيها الدين حاكماً وعماداً للحياة بالمعنى الحرفي للكلمة، بينما من قوانين العمران والاجتماع الإنساني التي أكد عليه القرآن الكريم في أكثر من موضع، قانون الاستطاعة، يقول تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

ومن بين صُوَر التيسير، قوله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مسجداً وطهوراً"، و"إن الدين يُسر"، وفي القرآن الكريم، يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

أما غير ذلك، فهي طرائق لا تجعل العبادة في متناول الجميع، ويحمل هؤلاء أوزار تفلُّت ملايين الشباب من التديُّن كما رأينا في استطلاعات الباروميتر العربي للأسف الشديد.

وهذا الذي نقوله ليس استثناءً أو نراه من عدد قليل من الدعاة، وإنما هي صور منتشرة للغاية، وساعد على انتشارها وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يوجد عليها إلا أقل القليل من القيود والضوابط في النشر، وضحالة الثقافة الدينية لدى الأجيال الجديدة.

صحيح أن أمر رمضان عظيم، ولكن الأمور إذا لم تؤخذ بقدرها فيه، قد يترتب على ذلك ضياع الشهر بالكامل.

ينقلنا ذلك إلى صورة أخرى من صور الإفراط المعطِّل، ولكنها من جانب الحكومات هذه المرَّة، وهي قضية التشديد في الإغلاق الكامل للمساجد خلال أيام الشهر الفضيل.

في حقيقة الأمر، ثبت أن الشيء الوحيد الذي نجحت فيه الحكومات من قيود الإغلاق للوقاية من وباء كورونا المستجد، هو إغلاق المساجد، حيث حظر التجوال غير مطبَّق بالكامل، وقيود الاختلاط حدِّث ولا حرج عن خرقها .

فبالتأكيد من الممكن المواءمة بين كل الاعتبارات، الوقائية وتلك المتعلقة بنشاط المساجد في حده الأدنى.

لكن غياب أصوات المساجد، مثل إذاعة قرآن المغرب وقرآن الفجر، قد أخلى الشوارع من روح رمضان، بينما كانت هناك أعداد كبيرة من الناس تصوم وتتعبَّد من هذه الأجواء التي تبثها مثل هذه الأمور في الحياة اليومية، بما في ذلك موائد الرحمن، وحتى الأسواق الشعبية لبيع منتجات رمضان التقليدية.

كانت لحظات قرآن المغرب وقرآن الفجر وصلاة التراويح - بالرغم إن الأصل فيها الأداء في البيوت - تربط الناس بالعبادة وبالشهر الفضيل. الآن، الشوارع بلا رمضان بالمعنى الحرفي للكلمة، وبخاصة في مجتمعات، الشهر الفضيل فيها هو عبارة عن مراسيم بالأساس، مثل مصر، ولذلك فإن هناك أعداداً من الناس تفلَّت منها الشهر لهذا السبب.

    باتت الشوارع بلا رمضان بالمعنى الحرفي للكلمة، وبخاصة في مجتمعات، الشهر الفضيل فيها هو عبارة عن مراسيم بالأساس، مثل مصر، ولذلك فإن هناك أعداداً من الناس تفلَّت منها الشهر لهذا السبب

وفي الأخير، فإن الظروف التي تحياها مجتمعاتنا من أوبئة وأمراض، طبية وغير طبية، أوبئة اجتماعية وفكرية وثقافية، بحاجة إلى خطاب دعوي أكثر رحابة، وأكثر ترغيباً للناس، خطاب دعوي ينطلق من مساحة الواقع الذي نحياه، ومن أهم مفرداته، قدرات الناس، ومدى التزامهم الديني.

وأبسط الأمور في هذا المقام، هو أن دعاتنا الأفاضل ينبغي عليهم أن يسألوا أنفسهم قبل الخروج على الناس، ما إذا كانوا يعرفون الأصول والأساسيات، قبل أن نطالبهم بالفرعيات ونحدثهم في الرقائق، ودفعهم إلى إتيان المشقات التي لا يستطيعها إلا المسلم صحيح الفهم، وبالتالي صحيح التديُّن.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل