حكمة ظهور الأدواء والشدائد ومسلك المؤمنين بالإله الواحد _ الداعية الحبيب عمر بن حفيظ

الخميس 09 نيسان , 2020 05:11 توقيت بيروت مقالات فكريّة

الثبات - مقالات فكرية

 

حكمة ظهور الأدواء والشدائد ومسلك المؤمنين بالإله الواحد

الداعية الحبيب عمر بن حفيظ

 

 

تَقْوَى اللهِ تَعْصِمُ القلوبَ عن الانحرافِ إلى خَوفِ غيرِ الله، أو الرَّجاءِ في غيرِ اللهِ تعالى في عُلاه، وهو سبيلٌ يتعاملُ بهِ المؤمنونَ مع الشِّدَّةِ والرَّخاء، وفي مُختلفِ النَّوازِل، ويُقيمونَ به حقَّ اللهِ تباركَ وتعالى في شُئونِ قلوبِهم التي تُوقِنُ أنَّ ما أخطأهُم لم يكُن لِيُصيبَهُم، وما أصابَهُم لم يكُن لِيُخطِئَهُم، وأنَّهم مُكلَّفونَ في هذهِ الحياةِ بالقيامِ بأسبابٍ لِنَيْلِ الرَّحمةِ والمغفرةِ والعافيةِ والشِّفاءِ والرَّخاءِ والخَيرِ ظاهرةٍ وباطِنَة، والبُعدِ عن أسبابٍ جعلها اللهُ تعالى الخالقُ سُبحانَهُ مَجْلَبةً لِلضُّرِّ والشَّرِّ والسَّقَمِ والمرضِ والآفاتِ والعاهاتِ والشقاءِ والبُعدِ والوصولِ إلى جهنَّم.

تِلْكُمُ الأسبابُ التي أقامَها الخلَّاقُ بِقُدرتِه، وجعلَ لهذا سبباً ولهذا سبباً، وحرَّمَ على مَن آمنَ به وبرُسِلهِ مُزَاوَلَةَ أسبابِ الوقوعِ في الهلاكِ بأنواعهِ وأصنافهِ؛ ديناً وهو الأعْلى، ونَفْساً وهو الأغلى بعدَ الدِّين، وجَسداً ومالاً وعِرْضاً، ومُوجِبَ نارٍ وسُخْطٍ للجبَّارِ وغَضَب، هذه الأسباب أوْجَبَ الحقُّ اجتِنابَها، والبُعدَ عنها لكلِّ مَن آمنَ بهِ وبرسولِه، وجعلَ الدَّائِرةَ تدورُ على مَن تعدَّى تلكَ الحدود، وتَعُمُّ مَن قَصَّرَ في أداءِ الواجبِ في تلك الحدودِ إذا تُعُدِّيَت ثم لم يَنْهَ بما يَقْدِرُ مِن النَّهي، ولم يَزْجُر بما يَقْدِرُ مِن الزَّجْرِ، قال تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ  كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.

وأنواعُ الابْتلاءاتِ والاختباراتِ مُذَكِّرات، وأنواعُ المصائبِ والنَّوَائِبِ مُنَبِّهات،  {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فالغايةُ مِن ذلك: نَيْلُ الرُّجوعِ للمؤمِنينَ بتصحيحِ التَّوبةِ، والتَّدَارُكُ بتَلافِي التَّقصيرِ في الواجباتِ لفِعلِها، والمندوباتِ للحِرْصِ علَيها، والمكروهاتِ للتَّباعُدِ عنها، والمُحرَّماتِ لاجتنابِها، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فكانت الحكمةُ الكبيرةُ فيما يْظَهرُ مِن زلازِلَ وخَسْف، وأوْبِئَةٍ تَنْتَشِر، وما كان مشهوراً في القرونِ الأولى بـ(الطَّاعون) وأمثال ذلك، ترجعُ الغايةُ في الحكمة إلى رَجْعةٍ صادقةٍ إلى الحقِّ الذي بِيَدهِ الأمر.

اللهمَّ أيْقِظ قلوبَنا والمسلمين، وأعِذْنا مِن شرورِ أنْفُسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، ولا تؤاخذْنا بما فعلَ السفهاءُ مِنَّا، وارْزُقنا الإنابةَ وحُسنَ الرُّجوعِ إليكَ ظاهِراً وباطِناً يا ربَّ العالمين.

واللهُ يقولُ وقولهُ الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أعوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرَّجيم، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، {وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ}.

اتَّقُوا اللهَ تقوىً تَعْلَمونَ بها واجِبَكُم في الحياةِ، ومُهِمَّتكُم في التَّذَكُّرِ والانْتِبَاه، ما نازلَ الأُمَّةَ مِن هذا الدَّاءِ العُضَالِ الذي أعْجَزَ دُوَلهمُ الكُبرى، وأقْلَقَ قلوباً كثيراً في الدُّولِ الموْسُومَةِ بـ(الصُّغرى) وتعالَت وتَسَامَت قلوبُ مؤمنينَ عنِ الهَلَعِ والجَزَعِ، وعنِ الرُّجوعِ إلى غيرِ مَن بيَدهِ الأمرُ. ألا إنَّ ما يُذكَرُ في هذا الشأنِ مِن تَرَاشُقِ بعضِ أربابِ السِّياساتِ في بعضِهم البَعض، والنِّسْبَةِ إلى التَّسَبُّبِ في أمثالِ ذلك، يَرْقَى المؤمنونَ ويَعَتْلُونَ عن أنْ يكونُوا فيها أطرافاً، أو أنْ يخوضوا فيها، أو يَلْتَفِتُوا إليها.

وما يُجْعَلُ مِن الاعتمادِ الكُلِّيِّ على الأسبابِ الظَّاهرةِ وحْدَها يتعالى عنه المؤمنون، فلا هُم بالذِين يتركونَ الأسبابَ الظَّاهِرة، ولا هم الذين يَسْتَخِفُّونَ بالأسبابِ الباطِنَة، ولا هم الذين يعتمدونَ على سَبَبٍ ظاهرٍ ولا سببٍ باطن؛ بل يتَّقُونَ ربَّ الأسبابِ ومُسَبِّبَها، ويُؤدُّونَ واجبَهم فيما يتعلَّقُ مِن احْتِرازٍ أو بُعْدٍ عن الأسبابِ الحِسِّيَّةِ في حدودِهَا، ومع ذلك لا يُغفِلونَ الأصلَ مِن أسبابِ الرُّجوعِ إلى الحقِّ، وتَدارُكِ ما فاتَ، والبُعْدِ عن المحرَّماتِ والسَّيِّئاتِ، التي لا يُصِيبُ النَّاسَ البلاءُ إلا بها؛ كما جاء في النَّصِّ الصَّريحِ في القرآن.

ويبذلونَ التَّعاونَ منهم بكلِّ ما استطاعوا مِن الأسبابِ الظاهرةِ والباطنةِ لمن يعيشُ معهُم على ظَهْرِ الأرض، مِن المؤمنينَ خاصَّة وسائرِ بني آدمَ عامَّة، تَبَعاً للأنبياء، ومَسْلَكَ الأصفياء؛ الذين اتَّبعُوا ما أوحى اللهُ إليهم رحمةً لعبادهِ، وخَتَم أنبياءَهُ بالرَّحمةِ المُهداةِ، وقال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

ولا الجزَعُ ولا الهلَعُ وصفُ المؤمنين، وذلك وصْفٌ يَلْزَمُ عامَّةَ الكفارِ لأنَّهم لا يؤمنونَ بغيرِ هذهِ الحياةِ، ولا يُصَدِّقونَ بالبَرزخِ ولا اليومِ الآخِر، وما عندَ اللهِ تباركَ وتعالى. ولمَّا قيل لسيِّدِنا معاذ: ها هو الأثرُ قد بدأ بإصبعِكَ مِن الطَّاعون!، قال: "إنه أحبُّ إليَّ مِن كذا وكذا مِن الإبِل؛ إن اختارَني الحقُّ جلَّ جلاله وأماتَني شهيداً بهذا الطاعون"، فكان مِن الشُّهداءِ، عليه رضوانُ الرَّبِّ جلَّ جلاله، وجاءَ في السُّنَّةِ: "إذا وَقَعَ الطَّاعُونُ في بَلَدٍ فلا تَدْخُلُوهَا، وَمَنْ كانَ بِهَا فلا يَخْرُجْ منْهَا فِراراً منه"، منهجُ تَقْوَى، وَوَسَطٌ عليٌّ، ومسلكٌ سَوِيٌّ، علَّمنا إياه سيدُنا النبي، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

 إنهُ تذكيرٌ وتَخْوِيف، يُنَبِّهُ إلى عَظَمَةِ التَّكليف، وأنْ يَنالَ المؤمنُ نصيبَهُ مِن الاستقامةِ التي تُوجِبُ التَّشريف؛ فليَتذكَّرْ أهلُ الإيمان تَسَاهُلَهُم بأوامرِ الرَّحمن ورسولِه، ووقوعَهُم في المَنْهِيَّات، وتعظيمَهُم لأربابِ الدُّنيا والمظَاهِر، الذين يَعْظُم الفَتْكُ فيهم في هذه الأيامِ بمِثلِ هذا الدَّاء، وهذا المرضِ والفَيروسِ الذي حيَّرَهُم، ولم يزالُوا في مُحارَبةٍ معه، ولا إلهَ إلا الله القويُّ القادِر، ولا إلهَ إلا الله العزيزُ الفاطِر، ولا إلهَ إلا الله، يُسَلِّمُ مَن يشاء، ويُصِيبُ مَن يشاء، وبِيَدهِ الأمرُ كُلُّه، وإليهِ يرجعُ الأمرُ كُلُّه، فَثِقُوا به، وتوكَّلوا عليه، وعَاوِدُوا حِساباتِكُم، وانْظُروا فيها وراجِعُوها فيما يتعلَّقُ بالواجبات.

ألا إنَّهُ ما فَشَتِ الفاحِشةُ في قَومٍ إلا فَشَت فيهمُ الأوجاعُ التي لم تكُن في أسلافهِم، ألا فلتأخذُوا بالأسبابِ ظاهِرةً وباطِنَة، ولا تعتمِدُوا إلَّا على المُسَبِّبِ وحدَهُ جلَّ جلاله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}.

اللهُمَّ، وما سَلَّمْتَ مِن بقاعِ الأرضِ مِن انتشارِ ذلِكَ الفَيروسِ والدَّاءِ فأدِمِ السلامةَ لهم، وأدِمِ الأمْنَ لهم، وأدِم حِفظَهُم مِن ذلك، وما أصابَ البلادَ والبِقاعَ مِن ذلك الدَّاءِ فَعَجِّلِ اللهمَّ بدَفعِهِ ورَفعهِ، وعجِّلِ اللهمَّ بكفِّهِ عن المؤمنيَن والمؤمناتِ خاصَّة، وعنِ العالمينَ عامَّة، يا مَن أرسلتَ محمداً رحمةً للعالمين.

اللهم وارزُقنا حُسْنَ التَّذَكُّرِ والاعْتِبار، والرَّجْعةِ والاستغفار، وكَفِّر عنا الذُّنوبَ الأوْزار، يا كريمُ يا غفَّار.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل