الثبات - مقالات فكرية
من القلب إلى القلب في زمن الابتلاء
فضيلة الشيخ محمد الفحام الدمشقي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه ومَنْ موالاه وبعد؛ فهذه رسالتي لكل محبٍّ ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ، فَرَضِيَ باللهِ تعالى ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبسيِّدنا محمدٍ رسولاً، مِنَ القلبِ إلى القلبِ في زمَنِ البلاءِ والابتلاء.
إخوتي أحبتي لِنَعْلَمْ أَنَّ مَطْلبَ الْتِزامِ المؤمنِ في زمَنِ البَلاءِ مبنيٌّ على ركيزَتَيْنِ ونَتيجة على الإجمال والتفصيل فَإجمالاً:
الركيزة الأولى: التزامٌ بأحكامِ الشرعِ كما أَمَرَ رَبُّ الأَنام سبحانه وتعالى ربطاً لِلأسباب ببعضِها البعض.
الركيزة الثانية: إيمانٌ باللهِ المريدِ القادرِ الواحدِ الأحدِ الذي لا شريكَ له الفَعَّالِ لما يُريد.
النتيجة: عملٌ بالأسبابِ كواجبٍ شرعيٍّ ، واعتمادٌ على خالقِها كواجبٍ عقائديٍّ، ذلك أنَّ الإسلامَ اسْتِسْلامٌ مُطْلَقٌ لأُلوهيَّةِ اللهِ وحدَه، ثم انْقِيادٌ لأَمْرِهِ ونَهْيِهِ وقضائِه.
وأما التفصيل:
الركيزة الأولى: في فِقْهِ الحُكْمِ الشرعيِّ
فَمِنَ الشواهدِ الشرعية؛ فيما يتعلقُ بالوباءِ قولُه صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الطاعونِ فَأَخْبرني أنَّه: "عَذابٌ يَبْعَثُه اللهُ على مَنْ يشاءُ، وأنَّ اللهَ جعلَهُ رحمةً للمؤمنين، ليس مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ في الطاعون، فَيَمْكُثُ في بلدِهِ صابراً مُحْتَسِباً، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلا ما كَتَبَ اللهُ له إلا كان له مِثْلُ أَجْرِ شَهيدٍ".
وعليه كان أَمْرُ الحَجْرِ شريعةً بتوجيه المشرِّع الصادقِ المصدوق عليه الصلاة والسلام.
والذي مِنْ شواهده في ذلك قولُهُ عليه الصلاة والسلام : "...فإذا سمِعْتُمْ به بأَرْضٍ، فلا تقدَموا عليه، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُم بها فلا تَخْرُجوا فِراراً منه".
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ على الْمُصِحِّ" أي لا توردوا الإبلَ المريضة، على الإبل الصحيحة فَتَمْرَض.
وقد وردَ أنَّه كان في ثقيفٍ رجلٌ مَجْذومٌ فأَرسلَ إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّا قد بايَعْناك فارجِعْ".
والمعنى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بايَعَهُ مِنْ بعيدٍ بسببِ مَرَضِه النَّاقِلِ للعَدْوى مَنْعاً لِلإِضْرار.
الركيزة الثانية: الإيمان
وأما الشواهد العقائدية: فمِنها قولُه عليه الصلاة والسلام : "لا عَدْوَى ولا طِيَرَة ولا هامةَ ولا صَفَرَ، وفِرَّ مِنَ المجْذومِ كما تَفِرُّ مِنَ الأسد".
العدوى: انتقالُ المرضِ مِنْ صاحبِه إلى غيره، والمعنى؛ أنَّ المرضَ لا يَنْتِقِلُ بطبْعِهِ بل بِفِعْلِ اللهِ تعالى وخَلْقِهِ.
الطِّيَرَةُ: التَّشاؤُمُ الذي كان عليه عَرَبُ الجاهلية.
الهامة: طائرٌ أو هو البُوم إذا سَقَطَ في مكانٍ تشاءَمَ أَهْلُهُ.
صفر: هو شهرُ صفرَ كانوا يتشاءَمون منه، أو أَنَّهم كانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحِّرمُونَه عاماً.
ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم : "لا عَدوى ولا طِيَرة، ويُعْجِبُني الفَألُ الصالحُ: الكلمةُ الحسنة".
ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عن الفأْلِ : "الكلمةُ الصالحةُ يَسْمَعُها أحدُكم".
ومنها قولُه صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّه سَمِعَ كَلِمَةً من أحدهم فأَعْجَبَتْهُ فقال: "أَخَذْنا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ" أي من فمك.
وعن بُريْدَةَ قال : "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَتَطَيَّرُ مِنْ شيءٍ، وكان إذا بَعَثَ عامِلاً سألَ عنِ اسْمِهِ فإذا أَعْجَبَهُ فَرِحَ به، ورُؤيَ بِشْرُ ذلك في وجهه..".
وعليه فَنَفْيُ العدوى هنا لا يُورِدُ تَعارُضاً، بل توافُقاً يُشيرُ إلى وجْهِ الرَّبْطِ بين الأدلة وهو: أنَّ الملْتَزِمَ بالأَحْكامِ إنَّما يَتَقَرَّبُ إلى الآمِرِ بها وهو اللهُ المعبودُ سبحانه وتعالى، وأنَّ ذلك مَدْخَلُ الفَهْمِ لِلتَّسْلِيم فيما يَقْضِي اللهُ تعالى مِنْ أَمْرٍ، وأنَّ عاقبةَ الخيرِ للصابِرِ الْمُحْتَسِبِ الْمُوقِنِ أنَّ ما أصابَه لم يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وأنَّ ما أَخْطأَهُ لم يَكُنْ لِيُصيبَه، وقد عَلِمَ أنَّ العَدْوَى لا تَنْتَقِلُ بذاتِها، بل بِخَلْقِ اللهِ تعالى وإِذنِه ومَشيئتِه فهو النَّافعُ الضارُّ، الْمُعْطِي المانِعِ، الشافي الهادي إلى سواءِ السبيل.
النتيجة: إنَّ فِقْهَ تلك الثوابتِ يوَلِّدُ في القلبِ أنواراً هاديةً تَسْتَنْزِلُ السَّكينةَ والطُّمَأنينةَ على القلبِ لأنَّه كما قال الصادقُ المصدوقُ في الصحيح: "عَجباً لَأَمْرِ المؤمنِ إنَّ أَمْرَهُ كلَّهُ إلى خيرٍ، وليس ذلك لأَحَدٍ إلا لِلْمُؤمِنِ، إنْ أَصابَتْهُ سراءُ شَكَرَ وكان خيراً له، وإنْ أصابَتْه ضَراءُ صَبَر فكانَ خَيراً له".
لِيُدْرِكَ العبدُ بعدَ ذلك حقيقةَ التوكلِ الظاهرِ والباطنِ أنَّ المتوكلَ فقيهٌ بأَحْكامِ ربِّه كما أنَّه فقيهُ نَفْسٍ ذو عقيدةٍ سليمة، يَرْبِطُ الأسبابَ بِبَعْضِها تَشْريعاً، ويَتَوكَّلُ على خالقِها تحقيقاً لا يَحْجُبُه توكُّلُهُ عن القيامِ بواجبِ تطبيقِه لأحكام ربِّه لعلمه أنَّ الائتمار بأمره والالتزامَ بنهيه سبحانه وتعالى قربةٌ من القرب العبادية.
وعليه فإنَّ الإِجْراءاتِ الْمُتَّخَذَةِ لِحِفْظِ النَّفسِ مع ظهورِ البلاءِ مِنْ هذا القبيلِ عند كلِّ مَنْ فَقُهَ دينَ اللهِ تعالى ، وتَمَّ له إيمانُه.
وهنا يَجْدُرُ القولُ: بأنَّ الخَوفَ والقَلَقَ لا يُساوِرانِ قَلْبَ مَنْ عَلِمَ أنَّ مَصيرَهُ بِيَدِ أرحم الراحمين لِيَقِينِه أنَّ مَنْ قَدَّرَ نُزولَ البَلاءِ بحِكمتِه، هو بذاتِه لو شاءَ لَقَدَّرَ نُزولَ العافيةِ وأَلْطافِها برحمتِه.
فَيُدْرِكُ وهو عاكف في محراب عبوديتِه_أنَّ عليه استثمارَ الوقتِ الذي قُدِّرَ عليه بالوقوفِ مُسْتَدْركاً ما سَلَفَ مِنْ واجباتٍ قَصَّرَ في حقِّ أصحابِها ابتداءً ِبَحِّق المولى الجليلِ سبحانه في أَهَمِّ ما شَرَّفَهُ به ورَفَعَهُ ونَفَعَهُ، وذلك ما يُسْتَدْرَكُ بالعُزْلَةِ خَلْوَةً مع اللهِ تعالى مُزكِّيةً تَشْحَنُ القلب بالتحلية بعد التَّخْلِيَةِ عَبْرَ تَطْويعِ الجوارحِ في نِظامِ الأَوامِرِ الإِلهية التي لا تَظْهَرُ مِصْداقِيَّةُ صاحِبِها إلا في السِّرِّ بِعِلَّةِ بُعْدِ الرقيبِ عليه مِنَ البَشر، فلا شاغلَ يَحْجُبُهُ عن الأُنسِ باللهِ تعالى، وهنا تَبْدُو بوضوحٍ حقائقُ صِلَتِهِ باللهِ تعالى سَلْباً وإِيجاباً، فإنْ هو سَئِمَ ما قُدِّرَ عليه وأرادَ الفِرارَ مِنَ اللهِ تعالى إلى سواه اكْتَأَبَ وضاقَ صدرُه بحِجابٍ ظُلمانيٍّ خانِقٍ كان آسِراً له قبل البلاءِ، ما عاشَ بِسَبِبِهِ ظلمةَ الغفلةِ زَمَناً في مَهاوي الأَهواءِ، فَغَدا بَعْدُ عِلَّةَ الْمَنْعِ مِنَ العَيْشِ وقتَه كما الشأن في المؤمِنٍ الذي ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ، وذلك لِفَقْدِ عُنْصُرِ الكمالِ فيه.
أمَّا إذا اطْمَأَنَّ وسَكَنَ وانْشَرَحَ ظَهَرَتْ عليه أنوارُ صِلَتِهِ بمولاه، واتَّسَعَتْ دائرةُ نورِه لِتُؤَثِّرَ على مَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهلِ بيتِه نَهْضَةً عُلْوِيَةً تُطَهِّرُهُمْ مِنْ صَدأ ما سَلَفَ، وتُعَلِّمُهم ما كانوا يَجْهَلُون، وتُيَقِّظُهُمْ إلى ما كانوا عنه غافلين، وهنا يَجْدُرُ القولُ أنَّه لا شَيءَ لمناعةِ كيانِ العبدِ مِنَ الأَمراضِ والأَوْبِئَةِ كسعادةٍ كَمَنَتْ أسرارُها في قَلْبِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ كمالاتِها لا تَتَأَتَّى إلا بكمالِ الإيمانِ، وتلك هي الطاقةُ الْمُعِينَة على مُجاوَزَةِ البَلاءِ بتمامِ العافيةِ التي يَعْظُمُ بها الأَجرُ، ويُرْفَعُ مِنْ خلالِها الوِزْرُ، ويَعُمُّ عَبْرَها الخيرُ العَميمُ بالعَوْدِ الحميدِ إلى اللهِ تعالى، والإنابةِ الجابرةِ لما مَضَى، والهاديةِ إلى سُبُلِ النَّجاةِ والخلاصِ والفلاحِ فيما هو آتٍ بِلُطْفِ العليمِ الخبيرِ السميعِ البصيرِ لأهلِ الاضطرارِ مِنْ عبادِه، الْمُفْتَقِرين إلى عفوِه، الْمُعْتَمِدِينَ على رحمتِه، الْمُتَدَبِّرينَ بيانَه، الْمُلْتَزِمين بمَدلُولِه الشرعيِّ، الْمُتَحَقِّقين بِجَوْهَرِه التربوي، الْمُزكِّي لِنفْسِهِ الأَمَّارةِ، الرافعِ شأنَها إلى مُستوى الراضيَةِ بقضائه وقَدَرِه، الشاهدِ لِآثارِ لُطْفِهِ، الشامِلِ لِعبادِه لاسيَّما الْمُوقِنين بأَنَّهم للهِ في حِلِّهمْ وتِرْحالِهم وحركاتِهم وسكناتِهم، التالينَ لِبيانِه في العَشِيِّ والإِبْكارِ، الذاكرين له كثيراً في الغُدُوِّ والآصالِ، المتفاعلين مع توجيهه القائل: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوف وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
فاللهم اصرفْ عنَّا البَلاءَ الذي قَدَّرْتَ، فإنَّه لا يَصْرِفُه سواك، وعُدْ عَلَيْنا بِعوائدِكَ الحُسنى التي لا يَمْلِكُها غَيرُك، وأَوْقِفْنا على أَعْتابِ العبوديَّةِ الخالصة التي جعلتَها سِرَّ الإمْدادِ لِكُلِّ مَنْ عَكَفَ في مِحْراِبها، واجعلْنا مِنْ عبادِك الْمُخْلِصين الذين يَسْتَمعونَ القولَ فَيَتَبِعُون أَحْسَنَه، المخلَصين في محرابِ خصائصِك يا مَنْ قلتَ وقولُك الحقُّ: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).