أقلام الثبات
تتحضر الحكومة اللبنانية لوضح خطتها للإصلاح المالي والإقتصادي الموعود، وسط تهيب من الإقدام على هذه الخطوة، من قبل الحكومة وكذلك من الذين ستصاب مصالحهم عند أي إصلاح، خصوصاً أولئك الذين شكلوا "مافيات" سياسية ومالية وإدارية، عملت على نهب البلد طوال العقود الماضية؛ ومنعت تحويله إلى دولة تخدم شعبها، بل تعاملت معه على أنه شركة، أو مجموعة شركات مساهمة وزعت محاصصة على تحالف النافذين من زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الذين ضاعفوا ثرواتهم أضعافاً مضاعفة، على حساب المال العام الذي نهبوه بالهدر والفساد والتهرب الضريبي وصفقات المتعهدين؛ وبالفوائد الخيالية التي حصلوا عليها لقاء أموال المودعين التي دينوها للحاكمين، الذين لم يشبعوا من نهب الخزينة، فعمدوا إلى سياسة الإستدانة بجشع أوصل لبنان إلى ما هو عليه.
وحسناً فعل رئيس الحكومة حسان دياب بسحبه بند التعيينات المالية من جدول أعمال جلسة الحكومة أمس. معلناً رفضه المحاصصة في تلك التعيينات. ويسجل له قوله: "إن التعيينات التي تحصل لا تشبهنا ولست موافقاً على تقدم التعيينات السياسية على الكفاءة". وكذلك تذكيره بأن "إنتفاضة اللبنانيين أتت لنقض كل السياسات الماضية". كما تم طرح "مسألة التعيينات برواتب خيالية"، فكان أن طلب مجلس الوزراء من وزير المال غازي وزنة، التواصل مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بغية تخفيض الرواتب في المصرف المركزي، بدءأً من راتب الحاكم وكبار الموظفين.
يعرف الرئيس دياب وأعضاء حكومته، أن أي إصلاح مالي في البلاد لا بد أن يبدا بتعزيز مداخيل الدولة. وهنا مفترق الطرق: بين من يسلك طريق الإستقواء على جيوب الفقراء، مكرراً السياسات الضرائبية للحكومات السابقة. وهذا ما سيدفع الناس إلى الشارع مجدداً، متخطين كل المعوقات، خصوصاً أن شبح الجوع يخيم على شريحة واسعة من الفقراء ومحدودي الدخل والعاطلين عن العمل، جراء الأزمة الإقتصادية القائمة، التي استفحلت مع الحجر الصحي القائم نتيجة تفشي فيروس "كورونا". وبين من يرى أن تعزيز مالية الدولة يتم بإقفال أبواب الهدر والسرقة والتهرب الضريبي وخفض، أو حتى وقف كلفة خدمة الدين العام، التي شكلت عملية نهب منظم للمال العام. وكذلك وضع حد لمهزلة تحكم المتعهدين وتجار النفط بمصير كهرباء لبنان، التي تستنزف خزينة الدولة، حيث يعطل أولئك النافذون الخطط الضرورية لإنشاء محطات إنتاج جديدة ومحطات تحويل، تؤمن التيار الكهربائي 24/24 ساعة للمواطن وتحرره من مافيا المولدات، المرتبطة بشبكة المافيات ذاتها التي تحمي أصحاب المصارف في إذلالهم اليومي للمواطن، الذي يتسول وديعته من المصارف ولا يحصل عليها.
وبغض النظر عما يريد رئيس الحكومة دياب، أو ما سيقدم عليه، فإنه أمام فرصة بأن يقود حكومته بمنطق دولة الرعاية التي تخدم شعبها، لا بمنطق الشركة التي تجبي وتستثمر لصالح أفراد نافذين. دولة جاءت الأحداث العالمية المترافقة مع تفشي وباء "كورونا"، لتؤكد ضرورتها وأن المجتمعات لا غنى لها عنها، خصوصاً في الملمات. دولة تبين أن مؤسساتها ونموذجها مستشفى بيروت الحكومي، الذي وعلى الرغم من تسميته باسم مستشفى رفيق الحريري، فإنه لم يحصل من الحكومات الحريرية إلا على الإهمال والتهميش؛ وإضطهاد موظفيه برواتبهم ولقمة عيشهم. وعندما إحتاج لبنان مؤسسة صحية يواجه فيها الوباء الجامح، غاب المستثمرون وتجار الصحة وجامعاتهم عن السمع، خصوصاً مع شح مالية الدولة. ولم نجد غير المستشفى الحكومي وموظفيه وطلاب الطب في الجامعة اللبنانية الرسمية، يتقدمون ويتطوعون لرفد المستشفى بالطاقات والخبرات.
هذه التجربة الغنية والقاسية هي درس لهذه الحكومة ولكل السياسيين، درس يقول بإسقاط مشاريع الخصخصة والتشاركيات ويقدم وجود الدولة ومؤسساتها الإنتاجية والرقابية لتقوم بواجباتها كاملة. ولوقف إستغلالها كبقرة حلوب لصالح الزعماء والنافذين وأتباعهم من المتعهدين.
ولعل المصادفات أحياناً أفعل من الخطط الخجولة. وقد نشكر يوماً "كورونا" على قدومه، لأنه نصر فكرة وهزم أخرى. فما نشهده جاء وسط "الكباش" السياسي والإجتماعي الدائر في لبنان، حول شروط صندوق النقد الدولي، التي تخدم مشاريع الخصخصة وبيع الدولة للذين سبق ونهبوها.
وهذا الأمر لو حصل لحول لبنان إلى خندقين متقاتلين: خندق الشرفاء والفقراء، مقابل خندق اللصوص والمتسلطين. خندق الذين يحمون فكرة "الدولة" وضرورتها. مقابل خندق "الشركة" التي لا ترى في الشعب إلا مجرد أيدي عاملة تستغلها لتراكم من تعبها وعرقها الثروات. وهذا ما أثبت التاريخ أنه سبب رئيس للثورات.