أقلام الثبات
إكتشف العراقيون متأخرين عمق الحفرة التي أوقعتهم بها الولايات المتحدة الأميركية، ليس فقط في إحتلالها وتدميرها العراق وجيشه وتخريب مؤسساته، لكن الأخطر والأكثر كلفة، كان تفخيخها الدولة العراقية باستنساخ إعادة تشكيلها وفق النموذج اللبناني.
فمنذ أن قدم رئيس الحكومة الأسبق عادل عبد المهدي إستقالة حكومته، كان واضحاً أن العراق دخل في أزمة ليس من السهل الخروج منها، خصوصاً أن شخصيتين كلفتا بعده بتشكيل حكومة ولم تتمكنا من تحقيق ذلك.
عبد المهدي الذي استقال في ظل ضغط عاملين خطيرين، الأول تمثل بالتظاهرات التي شهدها العراق، على شاكلة تظاهرات لبنان التي إندلعت في 17 تشرين الأول الماضي. والثاني كان إغتيال الأميركيين قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني؛ والقيادي البارز في الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، كان خطى باتجاه تخليص العراق من الهيمنة الأميركية عبر عقده إتفاقاً لإعادة إعمار العراق بكلفة تبلغ عشرات مليارات الدولارات، يدفعها العراق نفطاً وليس نقداً، مما إستبعد الشركات الأميركية من هذه الفرصة الدسمة وأسقط أحد الأهداف الأميركية البارزة في إحتلال العراق. وكان ذلك السبب المباشر في تحريك الأميركيين لشرائح شبابية وشعبية على شاكلة جمعيات المجتمع المدني اللبنانية، إستولت على الشارع وعطلت حركة الحياة اليومية والسياسية في العراق.
في تظاهراتهم طالب المحتجون العراقيون باسقاط الطبقة السياسية الحاكمة ومحاربة الفساد؛ وهو مطلب محق، لكنه أخفى مسعى أميركياً واضحاً، إلى التخلص من الأكثرية النيابية التي تضغط لإخراج القوات الأميركية من العراق. خصوصاً بعد حصول جريمة إغتيال سليماني والمهندس، من خلال التشكيك بشرعية المجلس النيابي القائم والدعوة إلى إنتخابات نيابية مبكرة. وطالما أن في الأمر تشكيل حكومة جديدة وتوزير، فإن "اللبننة" فعلت فعلها في الشارع السياسي العراقي، فآفة الحكم في لبنان، التي إستنسخها الأميركي للعراق، من خلال البنية التي فرضها الحاكم العسكري الأميركي السابق على العراق "بول بريمر" وهي "المحاصصة"، التي تعطل إقلاع عربة الحكومة وتسقط حتى عملية تكليف تشكيلها، خصوصاً في ظل وجود المهل الواضحة للتكليف والتشكيل، التي يستغل الساسة اللبنانيون عدم وجودها، لجعل عملية التكليف تمتد إلى فترات من غير سقوف. بينما رئيس الجمهورية العراقي ملزم بتكليف شخصية تشكيل الحكومة خلال مهلة 15 يوماً، وفق الدستور العراقي.
وفيما يستعمل معارضو الوجود العسكري الأميركي في العراق، وسائل عدة لإجبار الأميركيين على الإنسحاب منه، منها مهاجمة القواعد العسكرية الأميركية وقصفها بالصواريخ؛ وتسيير تظاهرات في بعض المناسبات ضد هذا الوجود. يستعمل الأميركي وسائل ضغط متعددة، إضافة إلى دعمه تظاهرات الشارع. فالأميركي يمسك بأوراق مكونات عراقية عرقية وطائفية، ما تزال تتمسك بالوجود العسكري الأميركي، تحت الحجة الواهية والمستهلكة وهي مواصلة مقاتلة "تنظيم داعش" الذي صنعه الأميركيون أنفسهم بالإتكال على تلك المكونات السياسية.
والأميركي الذي يدعي "نشر الديموقراطية" ويسقط أنظمة وحكومات، تحت هذا الشعار، هو الذي قطع الطريق على حكومة عبد المهدي، التي جاءت إلى الحكم بقوة أكثرية نيابية منتخبة وسلكت منحاُ إستقلالياُ بالإتجاه نحو الشرق لإعادة إعمار العراق. في حين ظهر واضحاُ في تصريحات وزير الخارجية الأميركى مايك بومبيو، دعمه لرئيس الوزراء العراقى المكلف عدنان الزرفى، الذي لم ينل موافقة كتل الأكثرية النيابية. كما يستغل الأميركي الخلافات العميقة التي تضرب صفوف تلك الأكثرية المناوئة لوجوده. فهذه الأكثرية منقسمة على نفسها كتلاً واحزاباً وتتصارع على "جبنة الحكم"، كاللبنانيين تماماً. وهذا أحد أسباب أن البرلمان العراقي فشل ثلاث مرات في الإلتئام خلال الفترة الماضية، للتصويت على منح الثقة للتشكيلة الحكومية، بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني. في ظل فساد يضرب السلطة الحاكمة في العراق، الذي يأتي في المرتبة 16 بين الدول الأكثر فسادا في العالم. وفي ظل بطالة تجعل واحداً من بين كل خمسة أشخاص يعيش على خط الفقر، رغم كون العراق من أكبر الدول النفطية. فالتصارع على نهب الأموال العامة أبعد أنظار السياسيين المتصارعين عن بناء دولة قوية قادرة على تغطية الفراغ الذي يحدثه خروج الإحتلال. وهذا ما بدا واضحاً عندما إضطر العراقيون إلى تشكيل "الحشد الشعبي" لمقاتلة "تنظيم داعش" الذي إحتل مساحات واسعة من العراق ولم يكن من الممكن صده لولا قوة وقدرة ذلك "الحشد".
ويبدو أن العراق يسير إلى المجهول بعد فشل رئيس الوزراء المكلّف عدنان الذرفي في تشكيل حكومة جديدة. على الرغم مما يقال عن أن الكتل التي كانت متمسكة بإخراج القوات الأميركية، تخلت عن هذا المطلب، أو غضّت النظر عنه، فعراق "ما بعد اللبننة" هو عراق المعاناة والتبعية والخضوع للإملاءات الأميركية، تحت طائلة إشعال فتن وحروب اهلية. وهو السيف ذاته الذي تهدد به الإدارة الأميركية لبنان وتمنعه من سلوك طرق مستقلة تخرجه من أزماته المالية والإقتصادية.