أقلام الثبات
اعتاد البعض من اللبنانيين تحويل كل قضية طارئة على البلاد، من الداخل أو الخارج، حتى لو كانت من الصين (إشارة لبعد المسافة)، أو من إيطاليا (باعتبار القول اللبناني الشهير: الحق على الطليان)، إلى قضية خلاف وطني، يوجه فيها سهامه لتصيب خصمه، أو حليف الخصم، في صراع الأدوار والأحجام الذي لا ينته، على الرغم من أن القضية قد تستدعي العكس تماماً، أي تشابك الأيادي والتعاون لدرء الخطر وحماية الوطن وأهله.
هكذا حاول البعض تحوير إنتفاضة اللبنانيين ضد السياسة المالية والضريبية لحكومة سعد الحريري الراحلة، لتوجيه اعتراضاته نحو المقاومة ودورها المحوري في حماية لبنان أرضاً وشعباً وقراراً وطنياً، بادعاء أن العمل المقاوم يشكل سبباً للأزمة المالية في البلاد. لكن السحر إنقلب على الساحر، إذ تتوجه أصابع اللبنانيين بالإتهام بالجرم نحو الفساد والفاسدين، الذين نهبوا البلد وثرواته وجلهم ممن يناصب المقاومة الخصام ويتصل بعلاقات غير سوية مع أعداء لبنان، الذين يدعمون ويؤيدون العدو "الإسرائيلي".
وعلى هذا المنوال جاء حال وباء "كورونا" العالمي، الذي تعددت مصادر "فيروساته"، وكانت أبرز أماكن بؤره المعلنة: الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبية وإيران، في حين أن إنتشاره طال أكثر من مائة بلد حتى الآن، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية التي أعلنت حال الطوارىء.
استغلت بعض الأصوات والقوى المحلية هذه المأساة الإنسانية، وشنت حملة ذات خلفية سياسية وعنصرية وحتى طائفية، على خلفية هذا الوباء، لتشويه علاقات لبنان بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، باعتبارها السند الحقيقي والقوي للمقاومة، إثر وصول طائرة من إيران تحمل لبنانيين تبين إن بينهم إمراة، أو إثنتان، مصابتان بفيروس "كورونا". لكن واقع الحال، أفسد على اولئك إفتراءاتهم، إذ تبين أن القادمين من إيران تماثلوا للشفاء بعد الحجر الصحي عليهم. ولم ينشروا "الفيروس" في محيطهم. في حين أن القادمين من بلدان أخرى، عربية وأوروبية، توفي بعضهم تأثراً بالوباء، بعد أن نشره في محيطه وبين اصدقائه وحتى داخل المستشفيات التي دخلها، قبل نقله إلى مستشفى بيروت الحكومي، المخصص لهذه الحالات. وبلغ خبث وحقد البعض في تسييس هذا الحدث، أن تجاهل أن عارضة أزياء أدخلت الوباء إلى البلد وتصرفت، ربما عن جهل، وكأنها تتقصد نشره، فتستر عليها ووجه الأنظار نحو الذين زاروا أماكن دينية في إيران. ويقال ان هناك تعتيماً على حالات أخرى مرتبطة بحركة المتوفين، ستكشف الأيام مدى صحتها.
واللافت في مثل هذه الحالات، أن اللبنانيين يسيسون كل قضاياهم. فوباء "كورونا" بدلا من أن يؤجل الخلاف حول طلب لبنان مساعدة البنك الدولي لحل أزمته المالية، جعل من هذا الوباء وجها من وجوه الأزمة. وباباً لتحسين المواقف، فكون المستشفى الحكومي هو المؤهل لإستيعاب مرضى "كورونا"، بات شهادة تدحض حملة البعض على القطاع العام. وتضرب فكرة الخصخصة من أساسها، التي يشجع عليها ويشترطها البنك الدولي، وكذلك مؤتمر "سيدر"، لأن الإستشفاء الخاص، الذي يعتاش في جزء كبير منه على حساب موظفي الدولة، شبه غائب عن مواجهة هذا الوباء الجامح.
وحتى طريقة تعاون الدول فيما بينها، جاءت لتؤيد إحدى وجهتي النظر، بين من يتمسك بنهج الإرتباط بالغرب وبسياسة الإستدانة منه، رغم شروطه القاسية والمهينة. وبين من يدعو للإنفتاح على الشرق بما يحفظ السيادة والمصالح الوطنية، على قاعدة الإتكال على الذات لبناء الإقتصاد الوطني. وهذا الرأي يعارض شروط مؤتمر "سيدر" وكذلك شروط البنك الدولي لمساعدة لبنان. وبات من المألوف أن تسمع من يقول أن الصين ضربت مثلاً في التكافل الانساني، وارسلت مساعدات من مواد طبية وأطباء، الى دول عدة تكافح لصد هجمة وباء "كورونا". وتلك الدول بامس الحاجة الى مثل هذه المساعدات كايطاليا. ويتوقع ان يشمل مد يد العون الصيني لبنان. على عكس مواقف العالم الغربي براسماليته المتوحشة وفي مقدمه الولايات المتحدة الأميركية، التي تقف شامتةً بضحايا هذا الوباء. وبدلآ من التعاون، تتطلع الدول الراسمالية الى انهيار انظمة تنافسها في اقتصادها، تحت وطأة هذا الوباء. إلى درجة ان صحافياً فرنسياً معروفاً كتب يقول عن مكافحة الصين للوباء: "لقد نجحت الصين في ما لم ينجح به أي بلد في العالم: هزيمة وباء عبر تعبئة عامة للمجتمع والدولة... انخرطت الصين في المعركة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً". ليضيف: "تصدرت واشنطن العالم بعجزها عن معالجة الوباء. وحيّد الإعلام الغربي أنظاره عن الكارثة. يجب أن نعترف اليوم أن بأن نظامنا الغربي ما عاد فعالا، بينما الإشتراكية الصينية قدمت نموذجاً جديداً في تفوقها، ذلك أنه لمحاربة تهديد كهذا يجب أن تكون ثمة دولة. فأين دولتنا؟ هل نستطيع أن نقوم ب 10 في المائة مما قامت به الصين؟".
ليس سؤالاً فرنسياً فقط، بل هو سؤال عالمي ولبناني بامتياز. وقد يعتبر جواباً على ما نعانيه من النظام الريعي المتوحش الذي ينوء لبنان تحت وطأته منذ ثلاثة عقود.