الثبات - اسلاميات
أهم أحداث السيرة في شهر رجب
سرية النخلة بإمارة سيدنا عبدالله بن جحش
بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة المنورة، بدء صلى الله عليه وسلم برصد تحركات قريش، حيث كانت العدو الأول لدعوة الإسلام، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام المبادرة، وسير الغزوات والسرايا، التي استمرت من رمضان في السنة الأولى من الهجرة إلى رمضان في السنة الثانية، وكلها حدثت قبل غزوة بدر، وكان منها: سرية نخلة، والتي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله عنه في رجب من السنة الثانية للهجرة.
و(نخلة) موضع بين مكة والطائف، تقع على بُعد حوالي (480) كيلو متر من المدينة المنوَّرة، وهي مسافة طويلة لسرية صغيرة، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية أمراً لم يفعله في سرية أخرى، فقد دفع إلى أمير السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه بكتاب مغلق، وأمره أن يسير بهذا الكتاب مدة يومين ثم يفتحه بعد ذلك.
يروي ابن كثير في "البداية والنهاية"، وابن هشام في "السيرة النبوية" أحداث هذه السرية فيقول: "فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: (إذا نظرتَ في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة)، بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله ـصلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه، فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا: عُمَّار -أي: يريدون أداء العمرة- لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم ابن كيسان، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش: أن عبد الله قال لأصحابه: "إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه".
قال ابن إسحاق: "فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام)، فوقَّف العير والأسيرين، وأبَى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال فقال من يرد عليهم من المسلمين، ممن كان بمكة: إنما أصابوا في شعبان، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَر} (البقرة:217). فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعنى سعد ابن أبي وقاص وعتبة بن غزوان-، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم)، فقدم سعد وعتبة فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم".
لقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه ما فعلوه من قتال في الأشهر الحرم، وقال: (ما أَمَرْتُكُمْ بِقتالٍ في الشهر الحرام)، ولم يكتفِ بذلك، بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتي وحيٌ يرشده إلى الصواب في هذه القضية، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (البقرة:217) تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة نعم!، ولكن الصد عن سبيل الله، والكفر به، واضطهاد الضعفاء، وإخراجهم من بيوتهم بغير حق هو أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل.
قال السعدي في تفسيره: "الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا، وقال بعض المفسرين:إنه لم يُنسخ، لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة؛ لعموم الأمر بالقتال مطلقاً، ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها، تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم، كما يجوز في البلد الحرام، ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش، وقتلهم عمرو بن الحضرمي، وأخذهم أموالهم، وكان ذلك -على ما قيل- في شهر رجب، عيَّرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين، قال تعالى في بيان ما فيهم: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله، وفتنتهم من آمن به، وسعيهم في ردهم عن دينهم، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام، والبلد الحرام، الذي هو بمجرده كافٍ في الشر، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام؟!، {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي: أهل المسجد الحرام، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم أحق به من المشركين، وهم عُمَّاره على الحقيقة، فأخرجوهم {مِنْهُ} ولم يمكنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} في الشهر الحرام، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟!، فعُلِم أنهم فسقة ظلمة، في تعييرهم المؤمنين".