الثبات - مقالات
البيئة في الحضارة الإسلامية
"قضية تسخير الكون للإنسان"
إن الإسلام حرر الإنسان من عبودية عالم الأشياء، وجعله يتحرر من رهبتها أو مراقبتها بتوجس، فأصبح يتعامل معها من منظور السلطة والسيادة، فلا يُفَوِّتُ أي فرصة للانتفاع بما سخره الله فيها.
والإنسان لا يستطيع أن يصل من التأمل في الكون إلى معرفة نظامه وقوانينه، إلا إذا وثق بنفسه أولا وآمن بأن الكون المشاهد خاضع لإدراكه وبحثه، وبأن ظواهره ليست بالشيء المبهم الغامض الذي لا يفسر، وبأن في مقدوره الاستفادة من الكون واستغلال خيراته على أوسع نطاق لتأمين حياته ورفاهيتها.
وتأكيد القرآن على أن الكون كله مسخر للإنسان هو في نفس الوقت تأكيد على روح المنهج العلمي الصحيح، الذي يحاول دائماً استكشاف ما هو مجهول من هذا الكون وظواهره على أساس من الثقة بقدرة الإنسان وبالعلم في مواجهة الطبيعة.
فالإنسان جزء من الكون، لكنه تميز عليه بعلاقته الخاصة مع الخالق، فهو المكلف بحمل الأمانة التي شق على السماوات والأرض والجبال تحملها، لأنها مسؤولية، فارتضت الكائنات أن تكون مسخرة للإنسان يُسْأَلُ هو عنها.
وقد تميز الإنسان أيضاً على بقية المخلوقات بأنه خُلِقَ مُعَدًّا لاستيعابها معرفياً، فباستطاعته أن ينقل العالم الخارجي في صورته الكمية والكيفية إلى عالمه الداخلي، فاستحق بقدرته المعرفية أن يحمل أمانة الخلافة.
والملكات والقدرات التي مُنِحَهَا الإنسان وفُضِّلَ بها إنما هي ليتمكن من الاستفادة بما سخر له في الكون من منافع، ولم تكن للسيطرة على الكون والتعالي عليه، والشعور بالسيادة المطلقة فيه، فإن تلك القدرات التي وهبت للإنسان هي لتمكينه من فهم وإدراك سنن الله المودعة سلفاً في كونه، وبمعرفتها يتمكن من الانتفاع بخيرات الكون التي سخرها الله له.
إذن فليست ملكات الإنسان وقدراته هي التي سَخَّرَتْ له الكونَ ومَكَّنَتْهُ منه، ودليل ذلك:
1-ألا نرى أضعف الخلق كالذباب يمكنه أن يخترق كل الحُجُز ويصل إلى الإنسان فيسلبه شيئاً لا يستطيع استنقاذه منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
2-وكذلك نرى أضعف الناس جسماً كالطفل الصغير وأضعفهم عقلاً كالمجنون يستطيع كلٌّ منهما التحكم فيما سُخِّرَ للإنسان نفعه كالماء والحيوانات الضخمة وغيرها، تنفعل له وتستجيب لقياده، لا لقدرة بدنية أو عقلية فيه.
3- وقد تنفعل الطبيعة مع الإنسان دون قصد منه، كأن يمر في طريق فتطأ قدمه بذرة فتصير شجرة فيأكلها حيوان فيصيده الإنسان فيأكله، فيجعله الله سبباً في حياة دون أن يدري ذلك.
ونخلص من ذلك أن الكون سُخِّرَ للإنسان بإرادة الله وقدرته، وليس لِتَمَيُّزِهِ وقوته دَخْلٌ في ذلك التسخير.
4- والطبيعة قد تنفعل بذاتها بإذن الله فتحافظ على قدرتها ونضارتها وجمالها، فحتى فترة وجيزة من التاريخ كان الإنسان يعثر في الأرض على أماكن لم تطأها قدم إنسان من قبل، وقد حظيت الطبيعة فيها بخيرات وحياة وجمال ينبهر به الإنسان.
5- ويثبت التاريخ والمشاهدات والتجارب عن حالات كثيرة تتخلف فيها مظاهر الكون عن سيطرة الإنسان وقبضته، فتنخرق السُّنَّة التي يظن الإنسان أنه أحاط بكل أسرارها واستنفد جميع أسباب إقامتها، فالمؤمن يعلم أن من وراء ذلك إلها واحدا، وأنه لا سلطان حقيقة في الكون غير سلطانه ولا قوة قاهرة غير قوته ولا ملك إلا ملكه.
ويحكي لنا القرآن عن بعض الملوك المتجبرين والفراعنة في الأرض الذين ظنوا أن سلطانهم فوق كل قوة، فقال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.
وكأن تسلطه على الأرض والماء في بقعة من الأرض يعطيه الحق في استعباد الناس. وقد سعى لاستعبادهم بكل سبيل، ولم يتصور أن يَخْرُجَ موسى وقومه على إرادته وبطشه.
فكل القوانين الكونية أو التوقعات البشرية تُؤَكِّدُ أن فرعون منتصر، فبعد أن تجبر في أرض مصر وتكبر وعلا أهلها وقهرهم حتى أقروا له بالعبودية، لا يمكن لموسى ومن تبعه أن ينجو من بطشه، فضلا عن أن يتحقق له ما وعده الله به، وأنجزه وعده. قال: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} ولاة وملوكا {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} نورثهم ملك آل فرعون في الأرض. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ}، ولولا أن تدخلت إرادة الله وقوته فقلبت الموازين وغيرت السنن في اتجاه نصرة الحق ونجاة أصحاب المنهج ما كانت تلك النتيجة.
ولا يمكن لإنسان العصر أن يستقر نفسياً ويأخذ وجهته الصحيحة نحو إنجاز رسالته على الأرض إلا إذا عرف حدوده مع خالق هذا الكون ومدبره، ذلك أن الكون كله شأن من شؤون الله تعالى، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} فهو تعالى خالق الكون بما فيه الإنسان، وهو الذي ركَّب العقل في الإنسان ليعمِّر به الأرض لا ليدمرها، وليعرف به خالقه لا ليلحد، والإنسان مدعوٌّ أن يضع نفسه في إطار الكون كله وقوانينه المطردة لا في إطار قدرته الخاصة المحدودة، وسيرى أن ليس للإنسان قدرة على توجيه مجرى الحوادث الكونية وفق مشيئته، لأن هذا من شأن خالق الأشياء جميعا ومدبرها، وهو الله.
المصدر: موقع فضيلة الشيخ علي جمعة