الثبات - مقالات
بحث في الإجهاض وتأخير الإنجاب
الشيخ الطبيب محمد خير الشعال
الإيجاد والخلق في الحقيقة منوط بالإرادة الإلهية، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اعزِلوا أو لا تعزِلوا، ما كتب الله من نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة".
ولا خلاف بين العلماء أنَّه يجوز للرَّجل عزل مائه عن الزَّوجة بإذنِها بالشروط التي ترد في شروط تنظيم النسل لاحقاً، بدليل قول جابر رضي الله عنهما: "كنَّا نعزِل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغه ذلك، فلم ينهنا".
ودليل اشتراط الإذن: عن عمر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعزل عن الحرَّة إلا بإذنها".
وكَرِه قومٌ من الصَّحابة العزل؛ لأنّ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم سمَّاه: "الوأد الخفي"، فحُمِل النَّهي على كراهة التَّنزيه وإلى ذلك ذهب الشَّافعية والحنابلة، وأجاز الغزالي العزل لأسباب، منها: كثرة الأولاد.
ويدخل في حكم العزل سائر الأسباب الوقائية، والوسائل التي يتقي بها الزوجان أو أحدهما الحمل، كالحبوب التي تستعملها النساء، واللجوء إلى الجماع في الأوقات التي لا يتوقع فيها العلوق، والأكياس الواقية، ونحو ذلك مما قد يبدعه الأطباء من الوسائل المختلفة.
فكل ما اتفق عليه الزوجان من ذلك ولم يستتبع ضرراً بالجسم والنفس بناء على مشورة طبيب موثوق جاز استعماله مع كراهة التنزيه.
مسألة تنظيم النسل
من مقاصد الزَّواج في الشَّريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النَّوع الإنساني، فلا يجوز إهدار هذا المقصد؛ لأنَّ إهداره يتنافى مع نصوص الشَّريعة وتوجيهاتها الدَّاعية إلى تكثير النَّسل والحفاظ عليه والعناية به، باعتبار حفظ النَّسل أحد الكُلِّيات الخمس التي جاءت الشَّرائع برعايتها.
غير أنَّ العناية بنوعية النسل لا تقل أهمية في الشريعة عن عدده وكثرته؛ إذ تنطلق الشريعة الإسلامية إلى رسم أحكام تحديد النسل وقاية وعلاجاً من مبدأ التنسيق الدقيق بين حقوق ثلاثة (حق الجنين، حق الأبوين، حق المجتمع)؛ ولذلك أجاز الشارع التَّحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين الحمول، أو إيقاف الحمل لمدة معينة من الزَّمن -وليس بشكل دائم-، بأي وسيلة من وسائل تنظيم النَّسل بشروط:
- أن يكون ذلك برضا الزَّوجين، فإنّ لكليهما حق.
-أن لا يكون ذلك لمنع النَّسل منعاً كاملاً، أو يؤدي إلى العقم (كالإخصاء، واستئصال الرحم.
فقد اتفق جماهير العلماء على أنه لا يجوز استعمال شيء من الوسائل التي من شأنها القضاء على النسل قضاء مبرماً، سواء في ذلك الرجل والمرأة، وسواء أكان ذلك باتفاق منهما أم من دون اتفاق، وسواء أكان الدافع دينياً أم غير ذلك.
-أن لا يكون في هذا ضرر؛ فإن تيقن الأطباء -أو غلب على ظنهم- أن في إحدى هذه الوسائل ضرراً جسيما حَرُم استعمال هذه الوسيلة.
- أن تكون الوسيلة مشروعة
- أن لا يكون في ذلك عدوان على حمل قائم.
فإنْ تحقَّقت الشروط السَّالفة جاز التَّحكم المؤقَّت بالإنجاب بقصد المباعدة بين الحمول، أو إيقاف الحمل لمدة معينة من الزَّمن باستخدام الوسائل لذلك (كاللولب أو الحبوب المانعة للحمل أو العزل أو غير ذلك).
حكم الإجهاض
الإجهاض محرّم بعد أربعة أشهر على الحمل - بعد نفخ الرُّوح-:
اتَّفق العلماء على تحريم الإجهاض بغير عذر بعد مرور أربعة أشهر على بدء الحمل -120 يوماً-، أي: بعد نفخ الرُّوح، ويُعدُّ ذلك جريمةً موجبةً للدِّية والكفارة، لأنَّه إزهاق روح وقتل نفس.
عن عبد الله بين مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق قال: "إنَّ أحدَكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمًر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح".
• حكم الإجهاض خلال الأشهر الأربعة الأولى - قبل نفخ الرُّوح-:
• عند المالكية: يحرم من اللَّحظة الأولى للحمل.
• عند الحنفية: يباح، وقيل يُكرَه لغير عذر، فإذا أسقطَت بغير عذر لَحِقَها إثم.
• عند الشَّافعية: يباح مع الكراهة إذا كان قبل تمام أربعين يوماً (40 أو 42 أو 45 يوماً) من بدء الحمل، بشرط كونه برضا الزَّوجين، وألا يترتب على ذلك ضرر بالحامل، وبعد الأربعين يحرم الإسقاط مطلقاً.
• عند الحنابلة: لا يحرم إلا بعد الأربعة الأشهر ويجوز قبلها، أي كالحنفية.
والذي نميل إليه: الأخذ بقول المالكيَّة بتحريم الإجهاض منذ اللَّحظة الأولى للحمل، فإذا دعت ضرورة أو حاجةٌ ملحَّةٌ للإجهاض فعندئذٍ يؤخذُ بقول الحنابلةِ في جوازه قبل الأربعة أشهر من بدء الحمل.
• أنواع الإجهاض:
-عفويٌّ: غير إرادي، كالإجهاض من أثر حملِ شيءٍ ثقيلٍ، أو بذل جهدٍ كبيرٍ، ولم تعلم المرأة أنَّها حامل أصلاً، فهذا معفوٌّ عنه.
-علاجيٌّ: يقرِّرُهُ الأطباء المسلمون الثّقات، فيحكمون بضرورة الإجهاضِ حفاظاً على حياة الأم، فإذا صارت حياةُ الأم في خطر يقيناً، ولا يوجدُ طريقةٌ للحفاظ على حياة الأم إلا بإسقاط الجنين، جاز ذلك حفاظاً على حياة الأم، مهما بلغَ عمرُ الجنين.
وللإجهاض العلاجي ضوابط لا بدَّ منها، وهي:
- وجود آفةٍ تعرِّضُ حياةَ الحامل لخطرٍ مؤكدٍ.
- أن تكون خطورةُ الحالة مرتبطةً بوجود الحمل الذي سبَّبَ الآفة أو دفع إلى اشتدادها.
-أن يؤديَ إيقافُ الحمل إلى زوال الحظر.
-عدمُ وجود أي واسطةٍ علاجيةٍ يمكنها إنقاذُ حياة الحامل.
-اجتماعي: لعدمِ الرَّغبةُ في الإنجابِ مثلاً، وهذا حرامٌ منذ اللَّحظة الأولى عند المالكية، وحرامٌ بعد الأربعين يوماً عند الشَّافعية، وحرام بعد أربعة أشهر عند الحنابلة والحنفية.
• أحكام متفرقة:
- لو اكتُشِفَ أن الجنينَ مصابٌ بداءِ مُزمِنٍ، أو قيل: إنَّ هذا الجنين سيولَدُ مصاباً بمرضٍ عصبي، أو تبيَّن أنَّ الجنين مُصابٌ بتشوُّهٍ مُعيَّنٍ، أو أنَّه سيحيا بعد الولادة شهراً أو سنةً أو أكثر أو أقلّ ثمَّ يموتُ، هل يجوز إسقاطه؟
- الجواب: لا يجوز إجهاضه شرعاً.
الإجهاض المحرّم هو من كبائر الذنوب لأنه قتل نفس، فمن أجهضتْ نفسَها أو غيرَها فهي آثمةٌ قاتلة، وعليها دفع دية هذا الجنين لورثته، وديتُهُ نصفُ عُشرِ الدِّية الكاملة، والتي تُجْهِض نفسَها تُحْرَم من ميراث جنينها، والرجل الذي يُجْهِضُ زوجته تلزمه ديةٌ وكفارة -عند الشافعية والحنابلة- وهي صوم ستين يوماً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقضى أن ديَّة ما في بطنها غرة عبد أو أمة، فقال وليُّ المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما هذا من إخوان الكهان".
- اختلف الفقهاء في وجوب الكفارة إضافة إلى الدية، فذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوبها، وذهب الحنفية والمالكية إلى أنها مندوبة وليست واجبة. والكفارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
- لا خلاف بين الفقهاء أنّ الواجب الماليّ من غرّة أو دية يتعدّد بتعدّد الأجنّة، فإن ألقَت المرأة بسبب الجناية جنيناً أو أكثر تعدّد الواجب بتعدّدهم؛ وكذا تتعدَّد الكفارة بتعدُّد الأجنّة أيضاً.