أقلام الثبات
مرة جديدة ينتصر لصوص الهيكل وتجار السياسة وتحالف أصحاب المصارف وزعماء الطوائف، فيما الخاسر بكل الحسابات هو الشعب اللبناني، الذي وجه رسالة حرص على الوطن خلال حراكه السلمي في الأيام والأشهر الأخيرة، لم يفهمها السياسيون كما كان يجب أن يفهموها. وبالتالي، فإن هؤلاء السياسيون المتحكمون ومعهم شركائهم أصحاب المصارف، باتوا منذ اليوم مسؤولين عن كل ردة فعل عنفية سيقدم عليها اللبنانيون فرادى وجماعات، لتحصيل أموالهم ممن سرقها وحجبها عنهم. ولفرض حقهم في العيش الكريم في وطنهم، حتى ولو إقتضى الأمر هدم الهيكل على رؤوس الجميع.
أمس، نام اللبنانيون والحزن يغمرهم على ما آلت إليه أوضاع وطنهم، بعد أن ألغى النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات قرار النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، بوضع إشارة منع تصرف على عشرين مصرفاً لبنانياً، بما في ذلك ممتلكات رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف المذكورة. فاللبنانيون يختلفون على قضايا كثيرة، لكن معظمهم متفق على مشاركة المصارف في إيصال لبنان إلى حالة الإنهيار المالي والإقتصادي، من خلال تواطئها مع السياسيين الحاكمين (ومعظم هؤلاء من أصحاب المصارف، أو كبار المودعين فيها) في إغراق لبنان في مستنقع الديون، الذي جنت منه المصارف فوائد خيالية جعلت رساميلها تتضاعف عشرات المرات خلال عمر هذه الديون، الذي ما زال مديداً.
ومنذ اللحظة الأولى لقرار القاضي إبراهيم، كان واضحاً لكل من يعرف طبيعة الحكم في لبنان والدور المركزي لأصحاب المصارف في صنع القرار السياسي والإقتصادي، أن قرار إبراهيم كان تلبية لإحد عاملين: أما أنه ينطلق من زاوية قانونية، لأن المصارف التي تعجز عن دفع إيداعات زبائنها، تعتبر مفلسة بموجب قانون التجارة. وبالتالي فإن هذا الواقع وضغوط أصحاب الودائع، يحتم على القضاء المالي إتخاذ القرار المذكور وحجز أصول تلك المصارف وأصحابها، تطبيقاً للقانون وصوناً لأموال المودعين ومنعا للتصرف بتلك الأصول.
وأما يكون تلبية للعامل الثاني، الذي توقعه كثيرون: إنه مجرد عملية "فشة خلق" وإمتصاص لغضب الشارع الذي بات يسأل بصوت عال عن دور القضاء في هذه الأزمة؛ وأسباب سكوته وحياديته في قضايا تعتبر من صلب دوره وواجباته. فهل يمكن لقاض أن يكون حيادياً أمام عملية نصب وسرقة مثل التي يشهدها لبنان، بحق شعبه، الذي يذل يومياً على أبواب المصارف، بفعل تحالف السياسيين وأصحاب المصارف؟
عندما إتخذ القاضي إبراهيم قراره، زادت وتيرة المضاربة بالدولار، الذي وصل سعره إلى حدود الألفين وسبعمائة ليرة للدولار الواحد. كما حرك زعماء الفساد شوارعهم، فاقفلوا طرقات وأحرقوا إطارات، تحت ستار "الثورة" و"الحراك الشعبي". وفضيحة أدعياء "الثورة" أن تلك الطرق فتحت بمجرد الغاء القاضي عويدات قرار القاضي إبراهيم. وهذا يؤكد أن شريحة كبيرة من "الحراك الشعبي" ما تزال تأتمر بأوامر المعترضين العلنيين على قرار إبراهيم، خصوصاً سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع. كذلك يلقي هذا التطور الضوءعلى نفوذ جمعية المصارف، العابر لكل المؤسسات ومراكز القرار في الدولة برمتها.
ظن اللبنانيون أن قرار إبراهيم هو خطوة على طريق الإصلاح الطويل ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين. وجاء قرار عويدات ليطفىء "بصيص الضوء" هذا؛ وليقتل ذلك الأمل الذي راود اللبنانيين للحظات، بإمكان حصول تغيير سلمي وبقوة القانون وجرأة رجال العدالة.
فاصحاب المصارف وكبيرهم حاكم المصرف المركزي، يملكون كل الأسرار المالية لعملية النهب المنظمة التي تعرض لها لبنان خلال العقود الثلاثة المنصرمة. ومد يد القضاء عليهم، سيدفعهم إلى كشف المستور، مثلما جرت العادة بين السياسيين، الذين لا يبوحون بفضائح أخصامهم اللدودين، إلا عند تفجر خلافاتهم. لكن الحلم سرعان ما ذهب مع اليقظة التي أكدت حقيقة الواقع الجاثم على صدور اللبنانيين، فنحن أمام دولة تحكمها المصارف. ولا صوت فيها يعلو على صوت أصحاب المصارف ومصالحهم المتشابكة مع مصالح زعماء السياسة والطوائف.
وقد اصاب رئيس الحكومة حسان دياب عندما قال "إن دولتنا مكبلة بالطائفية وينخرها الفساد". فهل سيقف مكبلا بدوره أمام تحالف الطوائفيين والفاسدين؟