هل ثمة تصور “شرعي” للتأديب التربوي والعقاب البدني خاصة؟

الأحد 23 شباط , 2020 04:56 توقيت بيروت إسـلاميــّـــات

الثبات ـ اسلاميات

ان مسيرة التأديب اليوم انقلبت عند البعض إلى عملية تعذيب لاسيما في المدارس، حيث يُعتَبَرُ التلميذ مادة امتهان مبذولة من الوالديْن للمعلّمين، وجعل البض من التأديب عملية انتقامية تفريغية لشحنات الضغط لدى المعلمين، دون قاعدة معايير منضبطة في حسّهم أو وعيهم، عن ماهية التأديب ووسائله وأهلية المؤدب ومناهجه .

ضوابط مرعية وآداب شرعية لا ينبغي لمؤدب التغافل عنها بحال، حين يجد أن تأديبه يتطلب العقاب البدني لمن يؤدّبه:

1- التدرّج في التأديب أولًا: فلا يجوز للمؤدب أن يتخطى إلى مرتبة في العقاب (خاصة البدني) وهو يجد فيما دونها كفاية وسعة. فيبدأ بالتنبيه على الخطأ، ثم يصبر على النصح والتوجيه واحتمال الحاجة لتكرار التنبيه، فإن لم يفد ينتقل إلى التوبيخ والزجر والتهديد بالعقاب.

2- مراعاة عقل من يؤدبه: فضرب من لا يَعقِل الضرب لن يحقق المقصود التربوي يقينًا وإنما يكدّر نفسه ويُبغِّض إليه من يقوم بشأنه، سُئِلَ الإمام أَحْمَدُ، عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ، قَالَ: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَتَوَقَّى بِجُهْدِهِ الضَّرْبَ، وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبْهُ.

3- إذا احتيج للضرب فعلى قدر الذنب: أي تناسب مقدار الضرب مع ما يحصل من التلميذ من التفريط والإهمال. فلا يجوز لمؤدب أن يسرف في الضرب بأي حجة، بل ويكون مسؤولًا شرعًا عن أي تلف أو ضرر يتسبب فيه للمضروب إذا تجاوز قدر ما تحصل به كفاية التأديب. ذكر الموفق رحمه الله في كتاب المغني: وَلَوْ أَمْكَنَ التَّأْدِيبُ بِدُونِ الضَّرْبِ لَمَا جَازَ الضَّرْبُ، إذْ فِيهِ ضَرَرٌ وَإِيلَامٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ. وَإِنْ أَسْرَفَ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا يَحْصُلُ الْغِنَى بِهِ، أَوْ ضَرَبَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنْ الصِّبْيَانِ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ حَصَلَ التَّلَفُ بِعُدْوَانِهِ. وكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَكْتُبُ إِلَى الأَمْصَارِ: لا يَقْرِنُ الْمُعَلِّمُ فَوْقَ ثَلاثٍ، فَإِنَّهَا مَخَافَةٌ لِلْغُلامِ.

4- أن يكون الضرب مشروعًا كمًا وكيفًا وموضعًا: ففي حديث حق الزوجة على زوجها: أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ، وورد:(وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ) فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَعْضَاءِ وَأَظْهَرُهَا وَمُشْتَمِلٌ عَلَى أَجْزَاءٍ شَرِيفَةٍ وَأَعْضَاءٍ لَطِيفَةٍ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ التَّأْدِيبِ.(وَلَا تُقَبِّحْ): لَا تَقُلْ لَهَا قَوْلًا قَبِيحًا وَلَا تَشْتُمْهَا وَلَا قَبَّحَكِ اللَّهُ وَنَحْوَهُ. والضرب المشروع هو غير المبرّح بما لا يشوّه لحمًا، ولا يكسر سنًا أو عظمًا، ويكون على الظهر أو الكتف وما أشبه ذلك.

5- ويستفاد من نفس الحديث أعلاه تجنب التقبيح: فلا ينبغي الخلط بين الجدية في الزجر والتأديب بالبذاءة في اللفظ صيانة لمكانة المؤدب ولنفس من يتأدب. والامتهان الكلامي للمتأدب يقع في نفسه موقع الإيذاء الحسي على بدنه، ويصيب عملية التأديب في مقتل إذ يوصل له مؤدبه رسالة أن الأدب لن يقع منه حتى يؤخذ بسوء الأدب .

6- تجنب الضرب والعقاب البدني حال فورة الغضب، لاحتمال أن يكون الضرب شفاء لغيظه لا بقصد التأديب والإصلاح: “وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْغَضَبِ تَغَيُّرُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ كَتَغَيُّرِ اللَّوْنِ وَالرِّعْدَةِ فِي الْأَطْرَافِ وَخُرُوجِ الْأَفْعَالِ عَنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ فَانْطِلَاقُهُ بِالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ الَّذِي يَسْتَحِي مِنْهُ الْعَاقِلُ وَيَنْدَمُ قَائِلُهُ عِنْدَ سُكُونِ الْغَضَبِ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْغَضَبِ أَيْضًا فِي الْفِعْلِ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَتْلِ، وَرُبَّمَا كَسَرَ الْآنِيَةَ وَضَرَبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ جَرِيمَةٌ. وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ عَرَفَ مِقْدَارَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ اللَّطِيفَةُ مِنْ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَغْضَبْ مِنَ الْحِكْمَةِ وَاسْتِجْلَابِ الْمَصْلَحَةِ فِي دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهُ وَالْوُقُوفُ عَلَى نِهَايَتِهِ .

7- الحرص على الشمولية في التأديب والتوجيه لتستقيم نفس المتأدب على مجامع الأدب: فالتأديب على ما أسلفنا جو وبيئة وثقافة نفسية قبل أن يكون رقابة على الجوارح والسلوك الخارجي. وفي الحديث المعروف بأمر الأولاد بالصلاة لسبع، ورد في نفس الحديث التفرقة بينهم في المضاجع لعشر: “مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ” حيث جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ فِي الطُّفُولِيَّةِ، تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمُحَافَظَةً لِأَمْرِ اللَّهِ كُلِّهِ وَتَعْلِيمًا لَهُمْ وَالْمُعَاشَرَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأَنْ لَا يَقِفُوا مَوَاقِفَ التُّهَمِ فَيَجْتَنِبُوا الْمَحَارِمَ ..

ويحسن التأكيد في الختام على أن التأديب المؤثر على الحقيقة هو الذي يبدأ منذ الصغر، بل هو الذي يرافق الصغر بما يتواجد في محيطه من نماذج متأدبة على الحقيقة، لا ممن يأمرون بالمعروف ولا يأتونه، وينهون عن المنكرون وهم مقارفوه، ويسنون القوانين على غيرهم ليخرقوها هم.

هذا وكم في تراثنا من الآداب الشرعية والضوابط المرعيّة ما لو استقمنا به في نفوسنا لتأدبنا فأحسنّا التأديب .


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل