الثبات - اسلاميات
الباحث عن الحقيقة
سلمان الفارسي رضي الله عنه
من عادات العرب الفخر بأنسابهم ولكن لصاحبنا اليوم شأن أخر وفخر آخر عندما سأل عن نسبه، حيث قيل أنَّه لما اجتمع مع نفر من الأعراب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: “أنا قرشي”، وذاك يقول: “أنا قيسي”، وذاك يقول: “أنا تميمي”، فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم.
إنَّه سلمان الخير، سلمان المحمدي، ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاك الشاب الآتي من بلاد فارس باحثاً عن الهداية دافعا ثمنها مقدماً من حريته.
اسمه الفارسي: روزبه بن يوذخشان بن مورشلا بن بهبوذان بن فيروز بن شهرك هذا أسمه عند الولادة ولد في أصبهان ببلاد فارس في قرية تسمى “جي” وكان أبوه دهقان “الرئيس الديني” لتلك القرية وكان روزبه أحب الخلق عند أبيه لذا حبسه ببيته وأجهد في المجوسية حتى صار قاطن النار أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، ولكن كان لله أرادة أخرى تخالف ما أراده له أبوه فلم يكن ذاك دينه ولا دوره الذي خلق من أجله فسبب له الأسباب كي يخرجه من تلك الدار وهذا العالم.
فيروي لنا صاحبنا بداية قصته فيقول: كانت لأبي ضيعة عظيمة، فَشُغِلَ في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟، قالوا: بالشام.
فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟، ألم أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟، قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت: كلا والله، إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته
قال: فَبَعَثْتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام.
فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟، قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق (فضة)، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .
يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصِل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به.
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب الموصل، وكان له مع صاحب الموصل نفس الشأن مع سابقه ولما حضرته الوفاة سأله إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فأخبره عن رجل بنصيبين فذهب إليه، فكان له معه نفس الشأن كسابقيه حتى حضرته الوفاة، فأعاد عليه نفس السؤال فأخبره عن رجل بعمورية، قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟
فقال له: إني يا بني لا أعرف أحداً على مثل ما نحن عليه ولكن قد أظلك زمان نبي، من بني إسماعيل مبعوث على دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهذا النبي سوف يخرجه قومه من أرضه مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بهذه البلاد فافعل، ومات الرجل ودفن وخرج سلمان يبحث عن النبي المنتظر (رسول الله) وبينما هو في الطريق إذ خرج عليه نفر كانوا في تجارة لهم فطلب إليهم أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب ويعطيهم ما معه من بقرات وغنيماته ولكنهم حين وصلوا إلى وادي القرى باعوه إلى رجل من اليهود فأصبح سلمان عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي .
ورغم ألم الرق والعبودية على حر كسلمان إلا أنه حين نظر حوله ووجد النخيل تفاءل واستبشر خيراً بأن تكون هذه البلدة هي التي سيهاجر إليها النبي المنتظر، ثم باع التاجر اليهودي سلمان إلى قريب له يعيش في يثرب وهكذا دخل سلمان المدينة المنورة عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي الجديد وهو من بني قريظة ويعيش في المدينة، ولم يخفف عن سلمان وقع الرق والعبودية إلا وجوده في هذه المدينة التي كان يعلم أنها مدينة النبي المنتظر كما وصفها له الأسقف النصراني.
وبُعث رسول الله بدين الحق في مكة واضطهدته قريش وأخرجته مهاجراً إلى المدينة فسمع به سليمان، وذات صباح وبينما كان سلمان يعمل في حديقة اليهودي حين حضر إليه قريب له فأخذ يقص عليه قصة الرجل الذي تجتمع إليه الناس في قباء ويزعمون أنه نبي، فما أن سمع سلمان ذلك حتى انتفض بدنه بشدة حتى ظن أنه سوف يقع على سيده . . . ونزل من على النخلة وأخذ يستفسر عن ذلك النبي المنتظر فغضب منه سيده فلكمه لكمة شديدة. ولكن سلمان أخذ بعض العنب وذهب به إلى رسول الله ، وحدَّثَ سلمان نفسه لا بد وأنه الرسول المنتظر الذي أخبر عنه وظل له أن يتأكد من علامته التي يعرفها فهو لا يأكل الصدقة، فقال سلمان لرسول الله : "لقد بلغني أنك رجل صالح وأنك ومن معك غرباء هنا ومعي طعام كنت قد خرجت به للصدقة ورأيت أن أعطيه لكم فقال رسول الله لأصحابه: "كلوا منه" وأمسك يده فلم يتناول منه شيئاً، فقال سلمان لنفسه: "هذه أولى العلامات" ثم دخل الرسول المدينة فأسرع إليه سلمان بهدية وقدمها إليه وهو يقول له: "إنها هدية لك لأني رأيتك لا تأكل من الصدقات" فأكل منها رسول الله و أكل أصحابه معه، فقال سلمان لنفسه: "والله أنها العلامة الثانية"، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استدبرته، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تحول، فتحولت، فقصصت عليه حديثي" .
ولكن ظل سلمان عبداً عند اليهودي ففاتته غزوة بدر وغزوة أُحد، حين اشتد على سلمان الرق جاء إلى رسول الله معتذراً عن عدم قدرته في المشاركة في الغزوات وألمه لتخلفه عنه لأنه عبد مملوك لا يملك أمره. هنا قال رسول الله : "كاتب اليهودي على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من الفضة" والتفت إلى أصحابه وقال لهم: "أعينوا أخاكم جزاكم الله خيراً" فجمعوا له ثلاثمائة ودية ثم أمره أن يرجع إلى اليهودي فيحفر لها بأرضه وسوف يأتي رسول الله ويضعها بيديه الشريفـتين وبقي المال فأعطاه رسول الله مثل البيضة ذهباً فأدى بها ما عليه من مال، وهكذا تحرر سلمان من العبودية.
خريطة لرحلة سيدنا سلمان الفارسي
تواضعه وزهده:
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل.
في الأيام التي كان فيها أميراً على المدائن وهو سائر بالطريق، لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر، وكان الحمل يتعب الشامي، فلم يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له احمل عني هذا فحمله سلمان ومضيا، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم فأجابوا وعلى الأمير السلام فسأل الشامي نفسه أي أمير يعنون؟ ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون عنك أيها الأمير فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل، ولكن رفض سلمان وقال لا حتى أبلغك منزلك.
سئل سلمان يوما ماذا يبغضك في الإمارة؟ فأجاب "حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها".