أقلام الثبات
تشير معظم الدلائل إلى أن قطار تشكيل الحكومة الجديدة يسير قدماً ولو ببطء، بغض النظر عن عدد الوزراء الذي ستضمه، أو نوعية الوزراء وتلاوينهم التخصصية أو السياسية وما أذا سبق أن كانوا وزراء ، أو انه عهدهم الأول في تبوؤ مثل هذا المنصب.
وأبلغ دليل على إقتراب الطبخة الحكومية من النضج، هو عودة لغة قطع الطرق إلى التداول اليومي، في تعد على الناس مهما اخترعت لهذا العمل من حجج، لأن القوى السياسية والحزبية، التي تسلقت على ظهر الحراك الشعبي، فشلت في تغيير توازنات الداخل اللبناني وفرض رؤيتها السياسية. وكذلك، نتيجة فشلها في تحشيد الشارع خلف طروحاتها والشعارات التي رفعتها. في حين تختبىء قيادات الحراك الأخرى، خوف المحاسبة على سوء الإدارة وعلى جنايتها في المراهنة على الإستقواء بأحزاب موجودة في السلطة، هي من أهل الفساد وأركانه.
وقطع الطرق، بما هو عمل عنفي يطال المواطنين مباشرة، دليل آخر، ليس فقط على عقم الأسلوب الذي اعتمد في قيادة الحراك الشعبي، الذي يفترض أنه "ثورة جياع" ضد السياسيين الفاسدين، بل هو كذلك، دليل على أن "الجياع" لم يكونوا هم من قاد الحراك وصاغ شعاراته، إذ جرى استغلاله من قبل قوى داخلية وخارجية. وهذا الإستغلال مستمر، من خلال قطع الطرق والتعدي على حق التنقل لكل مواطن. ومن خلال أسلوب التعامل مع تشكيل الحكومة الجديدة.
وفي نظرة سريعة على المناطق والقوى التي تقطع الطرق، يتبين أن الحراك الشعبي بريء من هذا العمل الغوغائي. وأن مؤيدي رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، هم تحديداً يتولون قطع الطرقات وتعطيل الحياة العامة في مناطق عدة. ويسعون إلى افتعال اشكالات تدفع البلاد نحو العنف والفوضى. وكأن لسان حال سعد الحريري يقول عن البلد: إما أن احرقه أو أحكمه، بما يرضي أصحاب القرار الخارجي، الذين يوحون للحريري بمثل هذه المواقف، بعد أن تخلى عنه حلفاؤه وبات أبرزهم وليد جنبلاط يفاوض على حصته في الحكومة الجديدة، عبر وسائل التواصل الإجتماعي، حيث يقول في آخر تغريداته: "إننا نطالب بالمساواة النوعية (كدروز) في التمثيل، أقلها (وزارة) الصناعة أو الأشغال. ونرفض النفايات (البيئة) والشؤون الإجتماعية".
والواقع أن العقل والمنطق يرفضان الدعوات إلى مقاطعة الحكومة وإلى رفض تشكيلها، فمن له مطالب حقة يحتاج إلى جهة رسمية يطالبها ويضغط عليها لتلبي مطالبه؛ ويتظاهر ضدها لتقبل بشعاراته. في حين أن من يدّعون "الثورة" عندنا يريدون ضرب مؤسسات الدولة ويرفعون شعارات يريدون من مجهول أن يحققها لهم، بعد أن يسقطوا من يفترض أن عليه التجاوب معها ولو تحت الضغط. علماً أن هذا الأمر فوق طاقتهم. وأن دعواتهم لآن يكونوا هم البديل السلطوي، يتناقض مع تمنعهم عن تشكيل قيادة لهم. كما يتناقض مع رفضهم وضع برنامج واضح بمطالب الحراك، يفاوضون على تحقيقه. حتى بات يقيناً أن سبب ذلك هو سعي بعضهم إلى السلطة، مع معرفتهم باستحالة ذلك، فكيف يقبل اللبنانيون تسليم سلطاتهم الى مجهولين. وما الذي يضمن الا تنتقل السلطة من فاسد إلى أكثر فسادا، أو إلى جاسوس أو عميل أو جاهل؟
واذا ساهمت معظم هذه العوامل في تخفيف وهج حراك الشارع وتراجع الالتفاف الشعبي حوله، فان العوامل الخارجية بدورها تفعل فعلها في تعطيل "الإنقلاب السياسي" الذي كان مخططا له. ولطالما ربط العارفون تطورات لبنان باحداث العراق، منذ عقود عديدة. وها هو حدث العراق الطارىء يوجه صفعة للاميركيين ومن يواليهم، بعدما ظنوا أنهم بالمال وبتحريك الشارع، ثم بالعمل العسكري، يمكن لهم أن يغيروا في خيارات الشعب العراقي. لكن رسالة العراق جاءت لصالح حشده الشعبي، مثلما جاءت رسالة لبنان خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة مخيبة لآمال ومطالب الأميركيين ومن يواليهم. وبالتالي، فإن حصيلة أحداث الداخل والخارج تصب في صالح تشكيل حكومة ترضي تطلعات اللبنانيين وتلبي مطالبهم الإجتماعية. بعدما سقطت محاولات استغلال الحراك ليكون في خدمة مطالب الأميركي و"الإسرائيلي" في تعديل الحدود واستغلال النفط والغاز ونزع سلاح المقاومة وتهميش دورها.