الثبات - مقالات فكرية
فتاوى إسلامية في ظاهرها وخادمة للغرب في حقيقتها
لست أعلم أمراً من أمور الدين كان أبعث للرهبة في النفس لدى الإقدام عليه وأدعى إلى التريث فيه والتخوف منه، من الفتوى إذ يجد العالم نفسه أمام ضرورة النهوض بها.. ولست أعلم أمراً من أمور الدين في عصرنا اليوم أقرب منالاً وأيسر ممارسة، وأكثر ازدحاماً عليه وتسابقاً إليه من أمر الفتوى.
أتأمل في مواقف أئمة الشريعة الإسلامية أولئك الذين شهدت لهم الأجيال بسعة العالم ودقة الفهم وعلوّ مكانة الاستنباط، مع الاستقامة في السلوك والزهد في الدنيا والورع في التعامل، فأراهم ينظرون إلى وظيفة الفتوى على أنها توقيع عن الله عز وجل، فأنى لهم الجرأة في الإقدام عليها وكيف يتأتى لهم الاستخفاف بها والتعجُّل في البتّ بها؟!..
يروي أبو عمرو بن الصلاح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى يرجع إلى الأول
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أفتى الناس في كل ما يستفونه فهو مجنون.
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه جاء رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه (أي لا أعرف الجواب) فجعل الرجل يقول: إني دُفٍعتُ إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه. ثم قال: والله لأن يُقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا أعلم. وكان سفيان بن عيينة يقول: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً.
ولا أعلم خلافاً في أن الفقهاء قرروا أن المفتي المستقل لا بدّ أن يكون مجتهداً مطلقاً. فإن كان مجتهداً ضمن المذهب الذي ينتمي إليه فهم المفتي غير المستقل. وله ضوابط وقيود ينبغي ألاّ يخرج عنها.
فإن كان دون رتبة الاجتهاد في المذهب، فهو مقلد أو تابع، فإن استفتي في أمر وجب عليه أن ينقل للمستفتي الحكم المفتي به في مذهب إمامه، ولم يجز له تجاوزه إلى غيره من الأئمة، كما لا يجوز له أن يفتي بالضعيف من الأقوال أو بمقابل الصحيح من أقوال المذهب. اللهم إلا أن يكون مجتهداً في باب من أبواب الفقه دون غيره، فله أن يفتي فيه اعتماداً على اجتهاده، وذلك بناءً على الصحيح من أن الاجتهاد قد يتجزأ.
إنني أتأمل في هذه الضوابط التي هي محل اتفاق لممارسة الفتوى، فيما أعلم، وأنظر إلى الرهبة التي كانت تفيض بها أفئدة الرعيل الأول ومن سار على نهجهم من هذه الأمة من أمر التصدي لمهمة الفتوى، وحذرهم الشديد من الإقدام عليها.
ثم أنظر إلى ما آل إليه حال كثير من أئمة المسلمين وعلمائهم، تجاه هذه المسؤولية الكبرى، فأرى من صور النقيض شيئاً مخيفاً يحمل في داخله نذيراً ببلاء وبيل!.. ربما يخيل إلى كثير من القراء أنني أعني الإقدام على الفتوى بغير علم، والتسرع في الإجابة عن أسئلة المستفتين دون تريث أو تأمل.. وهذا واقع مشاهد من دون ريب، وهو من الخطورة بمكان، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني أعني ما هو أخطر من هذا وأشدّ سوءاً منه.
إن الذي يجري اليوم في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية، وفي المجتمعات الغربية حيث الأقليات الإسلامية، العمل على تغيير الأحكام الشرعية الثابتة والاستبدال بها، تحت اسم تجديد الفقه الإسلامي.. وإنما ذلك على أيدي أناس يرتدون كسوة الإسلام ويظهرون بمظهر الدعوة إليه والدفاع عنه.
ويتمثل جل الحافز الذي يدعو إلى اتباع هذا النهج في استسلام أكثر الأنشطة الإسلامية، على اختلافها، للضغط الذي يمارسه الداعون والمروجون لتيار الحداثة، وفي خضوع أصحاب هذه الأنشطة للاتهامات الجائر التي توجه إلى الشريعة الإسلامية كدعوى جمودها عند النصوص، وعدم تحكيم ما يسمونه بروح كدعوى جمودها عند النصوص، وعدم تحكيم ما يسمونه بروح بروح الشريعة الإسلامية لدى الأخذ بها.. ويقوم كل من السياسة والانصهار في الحياة الحزبية، بدور كبير في دعم هذا التيار، والتجرؤ على ضوابط الاجتهاد، وعلى أصول التعامل مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وإنما يتم السير إلى هذه الغاية فوق جسر من سلسلة الفتاوى الشرعية في مظهرها وعناوينها والخادمة للخطط الأجنبية الهدامة في دخائلها ومضامينها.
إن التلاعب بأحكام الشريعة الإسلامية، لا يتأتى السبيل إليه اليوم بإعلان الهدف المطلوب وإبراز خفايا القصد إلى ذلك.. بل الشأن فيه أن يفجّر لدى أصحاب العواطف الإيمانية (وهم كثير) ردود فعل تجعلهم يزدادون تمسكاً بأحكام الله عز وجل، ويتوثبون لمحاربة المعلنين عن تلاعبهم بها، ويتجهون إلى تمزيق أسباب ذلك بالوسائل الممكنة كلها..
وإنما السبيل الوحيد اليوم إلى العبث بها فالقضاءِ عليها، أن يسرِّبوا الزغل والدخيل الزائف، من خلال أقنية الفتاوى ذات الحصانة الدينية.
فهذا ما يجري اليوم على الساحة المرئية في مجتمعاتنا الإسلامية، تنظر إلى بنيان الشريعة الإسلامية، وإذا هو يفرّغ من مضامينه شيئاً فشيئاً، لتحلّ في مكانها قرارات وأحكام أخرى معتمدة وجاهزة، لا علاقة لها بالإسلام، تنتظر الفريق المكلف بتمريرها من خلال نفق الفتوى وإدخالها في بنيان الشريعة الإسلامية، وهكذا تستقر هذه الأحكام ذات الهوية الإسلامية المزيفة داخل بنيان الإسلام منسوجة من الفتاوى الوهمية الباطلة.
ثم إن هذا التمرير يتم غالباً بواحد من عاملين اثنين:
أحدهما: عامل مصلحي سياسي.. وهو يتجلى في العقد الخفي الذي يجري عادة بين السلطة في دولة ما، ومن تختاره مفتياً فيها.. إن من المطلوب منه في هذا العقد أن يتناغم وينسجم مع ما تتطلبه السياسة الراهنة من العمل على انتقاص سلطان الشريعة الإسلامية على المجتمع، لاسيما ما يتعلق منها بالنظام الاقتصادي وأحكام الأسرة وعلاقة ما بين الرجل والمرأة، وما يتعلق بالروادع الأخلاقية عموماً، والشأن فيمن وقع عليه الاختيار لمنصب الإفتاء أن يؤثر دنياه على آخرته، ورضا رؤسائه على رضا ربّه، وأن يضحي بدينه في سبيل الإبقاء على منصبه، وطمعاً في الوصول إلى المنصب الاعلى الذي يليه، فيبرم العقد الخفي مع السلطة التي اختارته لتستعمله غطاءً دينياً لتوجه لا ديني!.. ويمضي يفاجئ المسلمين بالفتاوى التي يبرأ منها صريح كتاب الله وصحاح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنني لأعلم فقهاء في بلاد إسلامية مرموقة، كانوا قبل أن يتبوؤوا منصب الفتوى مضرب المثل في الاستقامة على الرشد، وفي أمانة التوقيع عن الله لا يحلّون حراماً، ولا يتساهلون في واجب، ولا يبدلون أو يغيرون.. فلما أتيح لأحدهم أن يتبوأ هذا المنصب فوجئ الناس منه بنقيض ما كان معروفاً عنه.. أصبح الربا الذي كان يبالغ في التحذير منه عملاً تجارياً مباحاً، وغدت الزكاة لا تجب في مجموع المال المتراكم في البنوك أو الصندوق إلا في الأرباح الناتجة منه، وهو الذي كان يفتي بما هو معروف ومتفق عليه من وجوب الزكاة في كلًّ من رأس المال وربحه.. وأصبح التزام الفتاة بحجاب الرأٍس أمراً منوطاً بالمصلحة ويُتسامحُ بشأنه إن تعارض مع دراستها في الثانوية أو الجامعة، وهو الذي كان دائم التذكير بوجوب ستر المرأة لمظاهر الفتنة والزينة من جسدها كُلِّهِ، وأصبح السعي إلى الاستشهاد ابتغاء مرضاة الله بقيوده وضوابطه الشرعية، في اجتهاده، انتحاراً يزجه في الكفران ويجرده من الإيمان، وهو الذي كان قبل جلوسه على هذا الكرسي، يغبط هؤلاء المجاهدين ويشجعهم ولا يشك في أنهم يرحلون – إن صفا منهم القصد – شهداء إلى الله عز وجل
ترى ما الذي جعل الواحد من هؤلاء، يخلع من حياته وظيفة الالتزام بشرع الله، ليرتدي بملء اختياره مهمة التبديل والتغير لأحكام الله؟
إنها الوظيفة الخفية التي انيطت به سياسة الدولة تقضي (فيما يتصوره القائمون على أمرها) بالاستجابة لمطالب أولي القوة العظمى، أولئك الذين أعلنوا الحرب على الإسلام. وإنما تتمثل مطالبهم في الانتقاص من أطراف الدين، وتمييع ضوابطه، والاستبدال بأحكامه.
ولكن فما هو السبيل الذي يحقق لهم هذه الغاية، دون الخوف من هياج الأمة ومن انقداح زناد الثورة فبها؟ إنه سبيل الفتاوى الإسلامية في ظاهرها، والكائدة للإسلام في باطنها.. إنها الفتاوى الجاهزة المصنّعة حسب الطلب، والتي تنتظر الإعلان عنها!..
فهذا هو الدافع الأول: دافع مصلحي لدى المفتي، ودافع سياسي لدى الدولة التي نصّبته!..
أما العامل أو الدافع الثاني، فهو دافع حزبي!.. وإنما أعني هنا الأحزاب الإسلامية، التي تعلن سعيها إلى فرض الشريعة الإسلامية على مجتمعاتها.. فما الذي يحدو بها إلى تغير أحكام الله؟
يتلخص الجواب، في أن القائمين على إدارة الحزب.. أيّ حزب إسلامي، يسعون كالأحزاب الأخرى للوصول إلى سدّة الحكم بالطرق الممكنة كلها، نظراً إلى أن ذلك هو السبيل الوحيد، في قناعتهم، لإدارة دفة الحكم الإسلامي وفرض القانون المطلوب، ومن ثم لفرض الشريعة الإسلامية ونظام الحكم الإسلامي على المجتمع.
وبقطع النظر عن صحة هذه الرؤية أو عدم صحتها، فإن الذي يحصل دائماً من جراء السعي إلى هذه الغاية، غايةِ الوصول إلى الحكم، أن القائمين على الحزب لا يألون جهداً في استنفاد السبل السياسية على اختلافها لبلوغ هذه الغاية، ويكون معتمدهم في ذلك دائماً أن الغاية القدسية تبرر هذه الوسيلة التي لا بديل لها.
غير أن هذه الوسيلة تقتضي في كثير من الأحيان مجاملة الآخرين من ذوي النفوذ، وتستدعي مسايرتهم في تحقيق ما يطلبون وكثيراً ما يكونون قوى أجنبية تتحكَّمُ في الخفاء بدفة السياسة العلمية، ومن عادة هؤلاء أنهم يصطفون لأنفسهم من المسلمين المرموقين عملاء لهم، ينفذون خططهم ويسيرون على النهج الذي يرسهم لهم.
ونظراً إلى أن الأحزاب الإسلامية داخلة، كغيرها، في فلك السياسة خاضعة لجاذبيتها، محكومة داخل تيارها، فلا مناص لقادتها من مدّ جسور السياسة ما بينهم وبين كثير من الساسة التقليدين في العالم الإسلامي، وكثير من القوى الخارجية في الغرب، واتخاذ أياد بيضاء عندهم كما تطلب الأمر ذلك.. إن مما هو مطلوب منهم أن يبرهنوا على أن الإسلام لا (إرهاب) فيه، وأن أحكامه مبنية على المسامحة والمسايرة وأنها خاضعة لمقتضيات التحديث والتطوير..
والمصير الذي لا بديل عنه لكل من استسلم لتيار هذه السياسة ودخل في جاذبيتها، هو الاستجابة لهذه المطالب وأمثالها. إذ هو السلّم الذي لا بديل عنه لبلوغ الحكم، ولتعبيد السبيل إليه.. ومن العلوم أن ذوي الفكر الإسلامي من أصحاب هذا التوجه، قادرون على تبرير الدخول في سلسلة هذه المسايرات والاستجابات، بحجة أنها الوسيلة التي لا بديل عنها لتعبيد الطريق إلى سدّة الحكم. ونظراً إلى أن الوصول إلى هذه الغاية هو السبيل الوحيد لبسط النظام الإسلامي وشريعة الله على المجتمع، إذن فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب!..
وإنها لمبررات ذات مقدمات فاسدة، ونتائج باطلة. غير أن الموقف لا يتسع لفتح ملفّ الحديث عن هذه المسألة التي قتلت بحثاً، والتي لفظتها التجارب المتكررة.
فانطلاقاً من هذه المبررات تحوك هذه الجماعات الأخرى، جماعاتُ الأحزاب الإسلامية، ما تدعو إليه الحاجة من الفتاوى الباطلة، وتصطنع أحكاماً شرعية لا وجود لها.
وكثيراً ما يتم تصنيع هذه الفتاوى في المجتمعات الغربية حيث الأقليات الإسلامية التي تقوم عادةً بها، بينها وبين السلطات الحاكمة مشكلات التناقض بين أنظمة الحكم والتزاماتهم الإسلامية.
فلكي يتبين لتلك السلطات الحاكمة أن الإسلام سهل ليّن كالخيزران، يتلوى حسب المطلوب وينسجم مع البيئة التي هو فيها أياً كانت، ويندمج في النظام القائم، ولكي يولوا أصحاب الأنشطة الحزبية الإسلامية العون ويساندوهم في جهودهم السياسية إن في تلك المجتمعات الغربية أو في دولهم الإسلامية، يمضي أصحاب هذه الأنشطة في تلوين النظام الإسلامي والأحكام الإسلامية، بلون التبعة الدائمة.
وإبرازً منهم لهذه الظاهرة أنشأوا في تلك المجتمعات الغربية ما سموه المجلس الأوربي للفتوى والبحوث. ومما يلفت النظر أن كثيراً من أعضائه لا معرفة لهم بالفقه ولا علاقة لهم به. وإنما تعود إدارته وأنشطته الاجتهادية إلى قيادته الحزبية التي تسخر فتاوى المجلس وأحكامه لما تقتضيه هذه السياسة التي أحدثكم عنها.. والهدف المرحلي القريب هو إبراز الإسلام على أنه الدين الذي تندمج أقليته في نظام الأكثرية المخالفة دائماً، ولا يوافق على أي مخالفة لها أو عزلة عنها.. أما الهدف البعيد فهو أن ينال أصحاب هذه النظرة الإسلامية السياسية ثقة ذوي النفوذ الغربين، فيمكنوا لهم سبيل بلوغ الحكم في مجتمعاتهم ودولهم الإسلامية، وفرصة قيادة الحكم فيها حسب ما يقتضيه هذا الإسلام المساير المسالم المستسلم لتيارات الحداثة والتجديد، على اختلافها.
وسيراً على هذا المنهج أصدر مجلس الفتوى هذا، سلسلة أحكام وفتاوى شرعية، يعلم القائمون عليه والمديرون له أنها فتاوى باطلة اقتضتها السياسة، كإفتائه بجواز استحصال القروض الربوية للحاجات الطارئة، وجواز الاندماج في المعاملات الربوية، وجواز بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوجها الكافر، وجواز العمل في المحالِّ التجارية التي تتعامل بالخمور والأطعمة المحرمة، وجواز استجابة المرأة المسلمة للنظام القاضي بمنع الحجاب.. إلخ.
والغريب أن الذين يسخّرون مجلس الفتوى الأوربي لهذه الأحكام وأمثالها، يبررون تصديهم للفتاوى الشرعية، بحجة أنهم علماء مجتهدون توافرت لديهم ضوابط الفتوى وشروطها، فإذا اتبعوا فتاوى باطلة استنكرها جمهور الأئمة نسوا أو تناسوا رُتَبَهم الاجتهادية التي تأبى التقليد والاتباع، وعادوا تابعين، بل مقلدين لأناس شّذّوا عن صراط الله، وشذوا عن قواعد العلم وضوابط الكتاب والسنة، فأفتوا بتلك الأحكام الشاذة الباطلة.
- إن أعمال التهديم لبنيان الشريعة الإسلامية تنوشه بمعولين اثنين:
أحدهما: معول الحرب المعلنة عليه، وها هو العالم الإسلامي كله، واقع تحت وطأة هذه الحرب. وليست أساليب الضغط الأدبي والمادي المتجهة إليه، لتغيير مناهجه التربوية والثقافية، إلا من ذيول هذه الحرب المعلنة.
ثانيها: معول الفتاوى الجاهزة التي تصاغ وتقدم حسب الطلب.. والتي يبتغى منها الوصول إلى المصالح والمغانم الدنيوية، أو اتخاذ أياد بيضاء لدى ذوي السلطات الأجنبية، أولئك الذين يخيل إلى كثير منا أن بيدهم الحلّ والعقد، والقبول والرفض، والتقديم والتأخير!..
فمن المنقذ؟ وأين عسى أن نعثر من يحمي بنيان الشريعة الإسلامية من كلا هذين المعولين اللذين لا يفتران عن أعمال التهديم والتحطيم؟
كان من المفروض أن نقول: إن بوسعنا أن نعثر على ملاذ في أشخاص قادة العالم الإسلامي، أو في من يتكلم عنهم ويتصرف باسمهم، أو فيمن يتكلم عنهم ويتصرف باسمهم، وهو منظمة المؤتمر الإسلامي.. ولكنا جميعاً نعلم أن أكثر هؤلاء القادة نسوا الله ووصاياه وأحكامه في غمار اهتماماتهم البالغة بمصالحهم العاجلة وكراسيهم الفانية. فلا يترددون، هم الآخرون، في إخضاع الفتاوى الدينية ما يضمن تسيير مصالحهم والإبقاء على كراسيهم.. وأما منظمة المؤتمر الإسلامي فهي في الحق ليست إلا بناءً شامخاً لأتعس قبر! إن تحرك الناس القابعون فيه، فلوظائف تشريفاتية مجردة، أو للنهوض بمراسم تقتضيها المجلات وتستدعيها ضمانات المغانم!..
إذن فأين نجد الملاذ؟
لعل الملاذ يكمن في البقية الباقية من العلماء الراشدين الذين عرفوا الله فوضعوا مخافته في قلوبهم، وأيقنوا أنه وحده الضارّ والنافع، والمعز والمذل، والمعطي والمانع. فاتكلوا بصدق عليه، وفوضوا أمورهم إليه واجتمعوا على تجديد البيعة مع الله وإعطائه العهود الصادقة أن يكونوا أمناء على الشريعة حراساً لدينه، ثم صاغوا من تلاقيهم وتعاونهم مرجعية علمية دينية، تصدع بالحق وتصحح المفاهيم الخاطئة، وتشطب على الفتاوى الدينية الباطلة، وتجيب عن أسئلة المستفتين أياً كانوا بما يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما اتفق عليه جماهير سلفنا الصالح، في غير غلو ولا شطط، مع التيسير من دون تمييع، ومع الحيطة من دون تعسير.
إنني أجزم بأن هذه البقية مع العلماء الصالحين موجودة، وكيف الأجزم بما وعد به رسول الله عليه وسلم.. كما أني أجزم بأن أمتنا الإسلامية لا يزال فيها خير كثير، بل فيها شيوخ وشبيبة يعيدون في ثباتهم على الحق وخوفهم من التحول وورعهم في السلوك، سيرة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
إن المطلوب من هؤلاء الخيار من أمتنا هذه، أن يلتفوا حول هؤلاء العلماء الراشدين العالمين، فلا يتلقوا أجوبه استفتا آتهم إلا منهم. وإن بوسعهم أن يتبينوا الفرق بين حال الصادق مع الله، والصادق مع نفسه ورغائبها وأهوائها، فإن غمّ عليهم الفرق فليلجؤوا إلى الميزان الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) وإذ قال: (استفت قلبك وإن أفتاك المفتون)
ومهما اعتذر البعض منهم بجهل الفَرقَ بين الفتاوى الشرعية الصحيحة، والفتاوى الزائفة الباطلة، أو بجهله الفرق بين العلماء الصادقين مع الله، والصادقين مع رغائبه وأهوائهم، فلن يكونوا أكثر جهالة مع المرأة الأميركية التي أسلمت دون زوجها، ولما سألت عن حكم الشريعة الإسلامية في بقائها تحت عصمة زوجها الكافر، كان جواب مجلس الإفتاء والباحثون لها، أن لا حرج عليها في بقائها تحت عصمته! ودون أن تفكر المرأة كثيراً أو تسأل علماء آخرين، استفتت نفسها ثم قالت: إن تعاملها مع هذا الجواب لا يرضي شعورها الإيماني بالله، ولا يبعث في قلبها الطمأنينة المنشودة. فاعتذرت لزوجها عن إمكان استمرارها تحت عصمته، وودعته إلى لقاء قريب في رحاب الإسلام.