الثبات - مقالات فكرية
فنّ المطالعة
"ماذا نقرأ، كيف نقرأ، متى نقرأ، أين نقرأ"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
لابد أن يذكِّر بعضُنا بعضاً بكِبَر المكتبة الإسلامية، فلا يخفى على أحد منا أن المسلمين أمة (اقرأ) لأن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم (اقرأ)، وأول من ينبغي عليه العمل بهذه الآية طالب العلم الشرعي.
يذكرون على سبيل المثال أنَّ الدولة الأموية أَنشأت في قرطبة في الأندلس سبعين مكتبة عامة فضلاً عن المكاتب الخاصة، هذه المكتبات السبعون فيها مكتبة واحدة هي المكتبة المركزية في قرطبة كان فيها في القرن الرابع الهجري أربع مئة ألف مجلدة ـ قريب نصف مليون ـ، وبعض المستشرقين عدُّوها ست مئة ألف، يعني وسطياً خمس مئة ألف ـ نصف مليون ـ .
نصف مليون مجلدة في القرن الرابع الهجري في مكتبة واحدة من مكتبات المسلمين في قرطبة، على حين أنَّ ملك فرنسا في القرن الثامن الهجري ـ يعني بعد أربعة قرون ـ لم يستطع أن يجمع في مكتبة فرنسا الرئيسة أكثر من تسع مئة مجلد، وهذا يشير إلى عظم المكتبة الإسلامية.
لعل أحدنا يقول ماذا اقرأ ضمن نصف مليون مجلدة؟ سيدخل إلى المكتبة وربما تاه داخلها. ومن هنا تبرز أهمية هذه المحاضرة لتكون دليلاً لطالب العلم في المكتبة الإسلامية الكبيرة.
وقبل دخولي في المحاضرة سأقرأ لكم هذه القصة: قال رجل لإبراهيم الحربي ـ من رجالات الحديث واللغة من وفيات 285 هـ الإمام العالم الزاهد الفقيه المحدث الأديب اللغوي الذي صنَّف كتاب "غريب الحديث" وكتباً كثيرة ـ وكان إبراهيم الحربي قد جمع اثني عشر ألف جزء لغة وغريب كتبها بيده، قال له: كيف قويت على جمع هذه الكتب؟ فغضب إبراهيم الحربي وقال: قويت عليها بلحمي ودمي، بلحمي ودمي، بلحمي ودمي.
- إذاً العلماء وطلاب العلم الشرعي يبذلون للقراءة لحومهم ودماءهم.
- وقد قال الإمام يحيى بن أبي كثير: لا يُستطاع العلم براحة الجسد. وهذا مذكور في صحيح مسلم: لا يستطاع العلم براحة الجسد. إما أن يرتاح جسدك وإما أن تُحصِّل العلم الشرعي.
- وقالوا: العالِم يبيع ثيابه ولا يبيع كتابه.
-وقالوا: مجد التاجر في كيسه، ومجد العالم في كراريسه.
ماذا نقرأ؟
اعلموا أن القراءة أنواع: قراءة حرف، وقراءة كلمة، وقراءة سطر، وقراءة مقطع. والإنسان منا يتدرب على هذه القراءات شيئاً فشيئاً.
عندما كنتَ طفلاً صغيراً كان أبوك يعلمك القراءة بالحرف، يقول لك: ب + ا = با، ثم: با + با = بابا، فعندما كنت صغيراً كنت تقرأ بالحرف.
وعندما صرتَ أكبر قليلاً صرت تقرأ بالكلمة تنظر إلى الكلمة فتعرف المطلوب منها فتقرؤها، وإذا قرأت أكثر تصبح تقرأ بالسطر، تُمِرُّ عينك على السطر، توجد في كل سطر كلمة "مفتاح"، إذا قرأت الكلمة المفتاح تعرف ماذا داخل السطر كله، وإذا قرأت أكثر تصير تقرأ بالمقطع، كل مقطع في كتاب له عبارة "مفتاح"، تبحث أنت في عينيك عن العبارة المفتاح تقرؤها فتعرف ما في المقطع، هذا الكلام يتحول فيك إلى مَلَكَةَ بواسطة التدريب، وقد قالوا: الخطابة بالخطابة والقراءة بالقراءة، كلما قرأت أكثر صرت ماهراً بالقراءة أكثر.
رَتَّبْتُ الكتب بحيث تقرأ الكتاب الأول في كل مادة، وقرأت الكتاب الثاني في كل مادة، وعُدْتَ وقرأت الكتاب الثالث في كل مادة، فتكون قراءتك أفقية وشاقولية، أفقية: يعني لديك مواد علمية عن المواد الثقافية الإسلامية كلها، فلديك مادة في القرآن ومادة في الحديث ومادة في العقيدة ومادة في السيرة ومادة في الفقه ومادة في الأصول، وهكذا........ ثم تتعمق أكثر في القرآن، في الحديث، في العقيدة، في السيرة... وهكذا فتصير لديك قراءة شاقولية.
أما طالب العلم الشرعي الذي يقرأ قرآناً وما يتعلق به وحسب، ولا يقرأ حديثاً أو سيرة أو عقيدة أو تراجماً أو تاريخاً، فهناك ضعف في مادته الشرعية.
بعض الأخوة يحب أن يقرأ عشرين كتاباً في الفقه حتى إذا سألته عن الحديث تجده قد قرأ كتاباً واحداً، هذا الطالب لديه خلل في مادته الشرعية.
وما ينطبق على قراءة الكتاب ينطبق على شراء الكتاب، وفق نفس الترتيب، مع ملاحظة أنّ الكتب أنواع .
أنواع الكتب من حيث الشراء والقراءة خمسة:
1. هناك كتب تُقتنى وتُقرأ مرة واحدة.
2. هناك كتب لا تُقتنى ولا تُقرأ، والمكتبة في الشارع مليئة بهذه الكتب، يعني مثلاً: مئة ابتسامة ساخرة ـ للرجال فقط ـ ألف ضحكة وضحكة. فمن الإسراف أن تدفع نقودك لشراء مثل هذه الكتب.
3. كتب تُقتنى ولا تُقرأ، فلابد من شرائها، وتبقى مراجعاً في مكتبتك فإذا أردت مادة علمية معينة منها أخرجتها، مثلاً كتاب: لسان العرب، كتاب قيم لابد من شرائه، لكن لا يُقرأ، ولعله في كل يوم تمر بك كلمة في اللغة العربية تحتاج معناها فتفتح المجلد وتقرأ معناها.
4. هناك كتب لا تُقتنى لكنها تُقرأ، لأن هذا الكتاب تقرؤه سريعاً ولن تحتاجه في عمرك كله مرة ثانية، ومن الإسراف أن تدفع ثمنه، مثلاً: هناك روايات إسلامية، كروايات الدكتور نجيب الكيلاني، روايات إسلامية جميلة لابد أن تقرؤوها، لكن لا تشتروها، تستعيرها من مكتبة صديق تقرؤها وتردها إليه.
5. كتب تُقتنى وتُقرأ مراراً (أكثر من مرة)، مثلاً: كتاب سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم للشيخ عبد الله سراج الدين، لا بد أن تقرأه في كل شهر ربيع، كلما جاءت ذكرى ولادة رسول الله صلى الله عليه و سلم يجدد عندك تعلقك بالنبي صلى الله عليه و سلم .
كتاب في فقه الزكاة في كل شهر رمضان كل داعٍ لله بحاجة أن يقرأ هذا الكتاب من أجل أحكام الزكاة وما يتعلق بها.
كيف تقرأ؟
-لابد عند القراءة أن تمسك بيدك قلماً، والأفضل أن يكون رصاصاً كي لا تشوه الكتاب، فكلما قرأت بيت شعر جميل ضع تحته إشارة، أو كلمة لطيفة ضعها ضمن دائرة، أو فكرة استهوتك اكتبها برأس الصحيفة، أو ضع الفكرة العذبة بين قوسين وهكذا، ثم ارجع إلى الورقة الأولى البيضاء في الكتاب، اكتب مثلاً في الصفحة 47 يوجد فكرة جميلة حول كذا، في الصفحة 300 يوجد بيت شعر جميل أو في الصفحة 212 توجد قصة مفيدة لطالب العلم الشرعي.
-ثم اقتنِ دفتراً ذا غلافٍ متين (يشبه المفكرات السنوية)، هذا الدفتر يعيش معك عمراً طويلاً، كلما مرَّ معك شيء جميل جداً سجِّله في دفترك، وتكتب من أي كتاب هذا ومن أي صحيفة ومن أي جزء.
أنواع الكتب من حيث القراءة المتأنية والسريعة قسمان:
1. كتب تقرؤها بسرعة.
2. وكتب تسمى مراجع تقرؤها بتأنٍ.
فكل واحد منكم بين يديه كتاب مرجع يقرأ منه كل يوم، لكن يقرأ صفحة أو اثنتين أو ثلاثة أو أربعة... وهناك كتاب سريع يقرؤه في يوم واحد أو يومين.
مثلاً: كتاب جامع الأصول في الصحاح الستة هذا كتاب مرجع (أحد عشر مجلداً)، أنت تقرأ كل يوم منه ورقة أو اثنتين... عشرة، تقرؤه بتأنٍ. وربما استمرت قراءته سنة أو اثنتين.
كتاب جامع القرآن للقرطبي في اثنين وعشرين جزءاً، ربما أقرؤه خلال بسنتين، لا مشكلة.
أما الكتب الفكرية السريعة خلال يوم أنتهي منها، أو خلال يومين أو ثلاثة وأنتهي، مثلاً: كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أقرؤه خلال النهار بسرعة، خلال يوم أو يومين وأنتهي منه.
متى وأين نقرأ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال لابدَّ أن نسأل أنفسنا، لِمَ نحن نقرأ؟
والجواب: نحن نقرأ تقرباً لله تعالى، فقد قال أهل الطريق: طالب العلم وِرْدُه علمُه. فكلما تعلَّمْتَ أكثر تأتيك وارداتٌ إلى قلبك أكثر، وتزيد علاقتك بالله عز وجل أكثر – إن صَحّت النية-، فإذا علمت أنك تقرأ تقرباً إلى الله تعالى فنحن بحاجة أن نتقرب إلى الله تعالى في كل زمان وفي كل مكان، لذلك متى نقرأ؟ في كل وقت، أين نقرأ؟ في كل مكان.
كان سماحة الشيخ أحمد كفتارو حفظه الله في سيارته، طلب من السائق ـ على ما أُخْبِرتُ ـ أن يضع له في الكرسي الخلفي مصباحاً صغيراً ويربط له القلم بشيء على مسند الكرسي الأمامي، وذلك لأنَّ الشيخ يضع كتباً في سيارته فإذا صعد ليركب في السيارة أوقد المصباح وقرأ، وكتب بالقلم.
عندما يكون سماحة الشيخ في بيته ـ وكلنا نزوره في بيته ـ لا نجده إلا وبين يديه كتاب، حتى على سرير نومه يضع كتباً فوق رأسه، والشيخ جاوز التسعين سنة، وهو يستقبل الآخرة ـ أطال الله عمره ـ ويودع الدنيا ولا يزال يقرأ لأنه يتقرب إلى الله تعالى بالعلم وبالقراءة، فما بالنا ونحن الشباب في أول حياتنا.
الخاتمة :
هذا موجز عن المعلومات التي أردت أن أنقلها إليكم عن فن المطالعة: ماذا نقرأ؟ كيف نقر؟ متى نقرأ؟ أين نقرأ؟
أرجو أن أكون وُفّقْتُ في اختيارها وعرضها.
أختم هذه المحاضرة ببيتين من الشعر ذكرهما الإمام اللغوي أحمد بن فارس صاحب معجم مقاييس اللغة، يقول فيهما:
ويُبْسُ الخريفِ وبردُ الشتا... فأخذك للعلم قلْ لي متى؟
إذا كان يؤذيك حَرُّ المصيف ... ويلهيك حسن زمان الربيع
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر: ملخص من المحاضرة لفضيلة الشيخ
د. محمد خير الشعال