الثبات - التصوف
من علامات النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات
كما أنَّ من مبشّرات ينع الأشجار، ضربها بجذورها في أعماق الأرض، منذ أيام وجودها الأولى، فإنَّ من مبشرات فلاح الإنسان، بناء حياته على وصلٍ بالباري جلّ وعلا منذ البداية قال الله تعالى: {َفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
إنَّ النهايات تستمد طبيعتها من البدايات، فإذا كانت مادة الاستمداد هي تقوى الله وخشيته ورجاؤه، فإنَّ ذاك من أعظم ضمانات النجح، كما أنَّ الاستمداد ممّا دون ذلك، لا شكّ سوف يصبغ هذه النهايات بصبغته، فاللواذ بالله في البدايات هو ضمانة رعايته سبحانه لللائذ في النهايات.
وهذه الحكمة المباركة لها بعدان متكاملان:
أولهما: أنَّ النهايات المرادة في هذا البعد الأول هي الخواتيم، أي ذلكم المقام البرزخي الذي يكون فيه المرء في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة، حيث الاستعداد للمثول بين يدي رب العالمين، وهذه الخواتيم هي التي فطّرت أكباد العارفين حيث قد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: "إنَّ أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم علقة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربعة؛ برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، فوالله إنَّ أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها".
كما كان من دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهمَّ أجعل خير عمري آخره، اللهمَّ أجعل خواتيم عملي رضوانك، اللهمَّ أجعل خير أيامي يوم ألقاك".
ومن الأحاديث الشريفة التي تعتبر أصلاً في هذا الباب، قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وبمقتضى هذا البعد الأول، فإنَّ النجاح في هذه النهاية الخاتمة، يكون رهيناً بمدى الرجوع إلى الله تعالى في البداية، حيث يكون بناء عمل الإنسان على اعتقاد سليم، وتوجه سليم، في اقتداء سليم بالمبعوث بالهدى والرشاد للعالمين صلى الله عليه وسلم، واتباع سليم للشرع الحنيف، وهو قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
قال الفضيل بن عياض: أحسن العمل وأصوبه، أخلصه ما كان خالصاً لوجه الله تعالى، وأصوبه ما كان وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
البعد الثاني: أنَّ النهايات كذلك هي نهاية كل عمل على حدة يقوم به العبد، وأنَّ النجاح في هذه النهايات، رهينٌ بالرجوع إلى الله تعالى في البدايات، أي بداية كل عمل، وهو ما بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث النية، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
مما يجلّي كون النجح في نهايات الأعمال، منبنياً على الرجوع إلى الله تعالى في بداياتها، من خلال استبطان النيات السليمة التي هي روح الأعمال، بصلاحها تصلح وبفسادها تفسد..
والشيخ ابن عطاء الله رضي الله عنه حين أشار بإشراق من خلال استعمال "من" أداةً للتبعيض، إلى أنَّ هذين البعدين معاً، إنما هما من علامات النجح في النهايات، وليسا كلَّ العلامات، في إشارة حكيمة وقوية إلى قوله تعالى: {ونيسرك لليسرى}، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلٍ"، قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلا أَنَا، إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ".
فالتيسير لليسرى من علامات النجاح، وكذا تغمد الله العبد برحمة منه وفضل، ولا يخفى أنَّ التيسير والرحمة والفضل، كلها أمور لها في حياة المرء وأعماله تجليات تتأبى على الإحصاء والحصر.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للرجوع إليه في البدايات، ويختم لنا بالحسنى في النهايات، وأن ييسرنا لليسرى، ويتغمدنا سبحانه برحمة منه وفضل.