الحكم العطائية ... "ما من نفَسٍ تبديه ألا وله قدرٌ فيكَ يمضيه"

السبت 02 تشرين الثاني , 2019 01:57 توقيت بيروت تصوّف

الثبات - التصوف

 

"ما من نفَسٍ تبديه ألا وله قدرٌ فيكَ يمضيه"

 

المقصود بهذه الحكمة التسليم والرضى بما يجري به القدر والقضاء فقال الإمام "ما من نفس تبديه ألا وله قدر فيك يمضيه".

النفَس: بفتح الفاء عبارة عن مقدار من الزمان قدر ما يخرج النفس ويرجع وهو أوسع من الطرفة والطرفة أوسع من اللحظة وهي رمق البصر ورده.

والقدر: هو العلم السابق للأشياء قبل أن تظهر وهو علم أوقاتها وأماكنها ومقاديرها وعدد أفرادها وما يعرض لها من الكيفيات وما ينزل بها من الآفات فإذا علمت أيَّها الإنسان أنَّ أنفاسك قد عمها القدر ولا يصدر منك ولا من غيرك إلا ما سبق به علمه وجرى به قلمه لزمك أن ترضى بكل ما يجري به القضاء فأنفاسك معدودة وطرفاتك ولحظاتك محصورة فإذا أنتهى آخر أنفاسك رحلت إلى آخرتك وإذا كانت الأنفاس معدودة فما بالك بالخطوات والخطوات وغير ذلك من التصرفات.

ولله در القائل:

مشيناها خطى كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن قسمت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها

 

وحقيقة الرضى هو تلقي المهالك بوجه ضاحك وحقيقة التسليم واستواء النقمة والنعيم بحيث لا يختار في أيهما يقيم وهذا هو مقام أهل الكمال الذين تحققوا بمقام التسليم المطلق لله تعالى.

في هذه الحكمة المباركة ينبه الشيخ بن عطاء الله رضي الله عنه، إلى أنَّ قصد الإنسان تحت عناية الله، وأنَّه لم يخلق عبثاً ولن يترك سدى، وأنَّ كل ما يحياه إنَّما هو تجل لحكمة الله سبحانه، وتكشُّف لأقداره.

وتتبدّى من خلال هذه الحكمة الكريمة عِبَرٌ ثلاث:

العبرة الأولى: مستمدة من مشكاة قوله تعالى مباشرة إثرَ أسر السيارة ليوسف عليه السلام وبيعه بضاعة بدارهم معدودة قال تعالى: {وكذلك مكّنّا ليوسف في الاَرض ولنعلّمه من تأويل الاَحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، مما يفيد أنَّ كل الأنفاس التي سيبديها سيدنا يوسف عليه السلام بعد ذلك سوف تكون أقداراً تمضي صُعُداً نحو مراد الله الذي هو التمكين لنبيه يوسف عليه السلام وتعليمه تأويل الأحاديث، وهو ما يتجلى بعد سبعين آية من آية الإعلان عن قدر الله، حيث جاءت آية الإعلان عن تحقق هذا القدر، وهي قوله تعالى على لسان نبيه يوسف عليه السلام: {ربّ قد آتيتني من الملك، وعلمتني من تأويل الاَحاديث، فاطر السموات والاَرض أنت وليّي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}، وقد مهّد لهذه الآية، قوله تعالى في الآية قبلها: {إنّ ربي لطيف لما يشاء إنَّه هو العليم الحكيم}.

وهذا الكشف الإلهي عمّا عاشه نبي الله يوسف عليه السلام في تلافيف حياته المباركة العامرة، من اشتباكات أقدار الله نحو قدر الله المقدور، عبارة عن إِطْلاع العباد على أصل ما يقع في حياتهم هم أيضا من اشتباكات قدرية توجهّهم نحو مراد الله تعالى منهم وفيهم.

فقصة يوسف عليه السلام وتظافرها في القرآن الكريم تزوّد العباد بمفاتيح فَهمِ ما يمر عليهم من أحداث ومحن، وأنَّ كل شيء عنده سبحانه بمقدار، فكل نفَسٍ العبد مبديه، إلا ولله فيه قدر يمضيه.

العبرة الثانية: مستمدة من مشكاة قوله سبحانه: {ولتصنع على عيني}، والذي من تجلياته قوله تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام: {ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين}.

وهي عبرة تخرج بنا من استيعاب وعموم الأولى، نحو تخصيصٍ بالغ الأهمية مفاده؛ أنَّ الإنسان وهو يخوض لجة حياته، في انفعال وتفاعل مع ما يحيط به من أحداث، وفي استجابة حيّة وذكية وحرّة وسريعة لما يُفرض عليه من مستأنفات الأحوال، يكون بذلك سائراً نحو قدر الله الذي أكِنّ له.

العبرة الثالثة: مستمدة من مشكاة قوله تعالى: {ما مكّني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً}، فذو القرنين وهو المُمَكَّن له في الأرض والمُعطى من كل شيء سبباً، كان يتبع الأسباب، مدافعاً أقدار الحق، بأقدار الحق، بالحق، للحق، فقوله: {ما مكّني فيه ربي خير}، يفيد أنَّه لا يقف إلا حيث يقف تمكين الله له، وقوله: {فأعينوني بقوة} يفيد انَّه يبذل الوسع، ويحرك من حوله ليبذلوا أيضاً وسعهم، وذو القرنين، على علمه بوعد الله أنَّ الردم سوف يجعل دكّا، فإنَّه اتبع الأسباب، وأمر بزبر الحديد، وساوى بين الصدفين، وأمر بالنفخ حتى جعل كل ذلك ناراً، ليفرغ عليه انتهاء القطر: {قال هذا رحمة من ربّي فإذا جاء وعد ربّي جعله دكّاً وكان وعد ربّي حقاً}،

وخلاصة هذه العبرة الأخص: هي أنَّ العبد وجب أن يكون دائم السعي والعطاء بقوة في اتخاذ للأسباب وإن تكشّفت له بعض جوانب أقدار الله، عاصمهُ في ذلك طهر النية، وصدق التوكّل على الحي الذي لا يموت.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل