أقلام الثبات
تلاحقت زيارات الموفدين الأميركيين والدوليين إلى لبنان خلال الأيام والأسابيع القليلة الماضية، كان الجامع المشترك بينها توجيه إملاءات للبنانيين وتهديدهم بلقمة عيشهم وبقدرة ليرتهم الشرائية، التي عادت المضاربة بالدولار تهز الثقة بها وتدفعها نزولاً، فيما يأكل صعود الدولار من مداخيل الفقراء والموظفين في القطاعين العام والخاص، ممن لا تطالهم المداخيل الدولارية.
الصمت المطبق لبعض المسؤولين يؤكد تورطهم في هذه اللعبة، التي تستغل حرب العقوبات الأميركية على لبنان عموماً وعلى بيئة حزب الله خصوصاً، ليكملوا مسيرة نهبهم للمال العام، تحقيقاً لغايتين: الأولى شخصية، هي جمع المال الحرام والاثراء غير المشروع بما يشكل غذاء لتزعمهم على طوائفهم. والثانية سياسية، ينفذون فيها أوامر وسياسات المحور الأميركي - السعودي، في تهيئة الأرضية السياسية والإقتصادية لتركيع اللبنانيين واجبارهم على الإنضواء في الحلف السعودي - "الإسرائيلي"، ضد كل من يقف في وجه المشروع الصهيوني الذي يجتاح المنطقة منذ سبعين عاماً.
تتمحور الضغوطات الخارجية التي اشار إليها بعض المسؤولين، بين ضرورة القيام باجراءات مالية تمنع الإنهيار الإقتصادي، لآن حلفاء أميركا الأوروبيين يخشون ان تؤدي أي هزة أمنية في لبنان، إلى هجرة مئات آلاف السوريين والفلسطينيين النازحين إلى لبنان، باتجاه أوروبا. ولا يريدون تحمل هذا العبء، بل يصرون على تحميله للبنانيين عبر إعطاء لبنان قروضاً (قروض مؤتمر سيدر) تؤجل إنفجار أزمته المالية، يلتزم لبنان بسدادها من مال اللبنانيين، الذين أثقلت الديون التي ورطت الحريرية السياسية وطنهم بها وبات عاجزاً عن تأمين فوائد الدين العام، البالغة ستة مليارات دولار سنوياً؛ وبين اتخاذ لبنان موقف الحياد والنأي بالنفس عن أي حرب تجري في المنطقة، بحيث ينتظر لبنان النتائج ويخضع لتداعياتها، بدلا من أن يلاقيها ويؤثر فيها بما يحمي مصلحة لبنان واللبنانيين، على غرار تدخل حزب الله في سوريا، الذي حمى لبنان من المشروع التكفيري الممول خليجياً والمنظم أميركياً و"إسرائيلياً".
وهناك من بات على قناعة بأن العقوبات الأميركية على لبنان، التي باتت أشبه بحرب إقتصادية على شريحة محددة من اللبنانيين، بقدر ما فيها من هاجس "الأمن الإسرائيلي" الذي يتقدم الإهتمامات الأميركية في المنطقة، بقدر ما فيها من محاولة صنع توازنات داخلية لبنانية، تكفل بقاء أتباع أميركا في مواقع النفوذ والسلطة، بعدما أضعفتهم الإنتخابات الأخيرة، مع إستمرار فسادهم ونهبهم للمال العام، الذي بات أشبه بحرب على اللبنانيين وعلى بنية الدولة ومؤسساتها.
من سخرية الأقدار، عند الحديث عن فساد السلطة في لبنان، أن رئيس الحكومة سعد الحريري بات يشكو من المحاصصة التي تدار بها شؤون البلاد، في حين أن الحريرية السياسية ما كان لها أن تكون لولا سياسة ومنطق المحاصصة الطائفية والمذهبية، التي كرسها إتفاق الطائف وكان من أبرز نتائجها إسقاط حكومة الرئيس الراحل عمر كرامي عام 1992 وبدء الصعود السياسي للرئيس الراحل رفيق الحريري، على ظهر المضاربة بالدولار، الذي قاربت قيمته حينها الثلاثة آلاف ليرة للدولار الواحد، ليتم تخفيض تلك القيمة فيما بعد وتصبح 1500 ليرة للدولار ويصور معها الحريري بأنه المنقذ.
ما نراه من حرب مالية أميركية على لبنان وتواطؤ من بعض الداخل، هدفه التخلص من المقاومة، إذ يعتقد المحور الأميركي - الصهيوني - السعودي أن "الصيدة" حسب تعبير أمير قطر السابق، باتت في متناول اليد، لكنها لبنانية هذه المرة وليست سورية. وهناك قوى في الداخل اللبناني على استعداد لبيع "أمها وأبيها" وليس وطنها فحسب، مقابل الحصول على المال الحرام محمياً بالرضى الأميركي. مع رهان، سيخسر كسابقاته، بأن ما عجزت عنه القوات الأميركية المتعددة الجنسيات عام 1983 والإعتداءات الإسرائيلية المتتالية في أعوام 1993 و1996 و2006، يمكن تحقيقه بالضغط المالي والإقتصادي. وهذا يحتم على الوطنيين والمقاومين في لبنان، الرد عليه بمقاومة إقتصادية عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق، تحمي حاضر وكرامة اللبنانيين ومستقبلهم وتسقط حكم الفاسدين الذين يستقوون على شعبهم بتهديدات وإملاءات شينكر وبيلينغسلي ودوكان وأمثالهم.