الثبات - اسلاميات
الشيخ العارف بالله عبدالرحمن الشاغوري
هو العلامةٌ العارفُ الشيخُ عبد الرحمن عابدين الشاغوري الحسيب النسيب، شيخُ الطريقة الشاذلية في بلاد الشام.
ولد رحمه الله بحمص سنة 1910 ونشا يتيماً في كفالة أخيه الأكبر محمد. ثم قضى الله تعالى بالرعاية والعناية له منذ مطالع الطفولة بأن جعله يألف مجالس الطريق والذكر في حمص، وتمَّم عليه الفضلَ بأن توجَّه به أخوه إلى دِمشق الشَّام وله من العمر اثنتا عشرة سنة فشَبَّ فيها على هِمَّةٍ وجِدٍّ في سبيلي الدنيا للمعاش، والآخرة للمعاد.
فتردَّد على العديد من علمائها الكبار، وحضر مجالس الشيخِ المحدث الأكبر بدر الدين الحسني، والشيخ المربي الجليل علي الدقر وغيرِهم، ثم تلقى علومَ الفقه الشافعي وعلوم العربية في مرحلة واسعة من مراحل الطلب على يد الشيخ الفقيه العلَّامة حسني البغَّال، وهذا الأخير كان له الفضل الأكبر في تأسيس الشيخ العلمي، ثم تعريفِه بالشيخ الهاشمي الذي حطَّ رحاله عنده في نهاية المطاف فغَنِم عنده إكسيرَ العلوم وخلاصة الفهوم عبر بيعةٍ مباركة وعَهْدٍ ميمون وطلب لأصول العلوم فريد.
فَنَهَلَ من مَعينه وعبَّ من حِياضه، ثم ترقَّى في معراج معارفه ليغدوَ بعد ذلك من أبرزِ مريديه لاسيما في علم التوحيد الذي كان الهاشميُّ رحمه الله متفرداً فيه بين شيوخ زمانه.
حمل الشيخ عبد الرحمن رحمه الله أعباءَ الدعوة وتسليك السالكين وتربية المريدين بعد وفاة شيخه، وتكبَّد ثقلها فملأ أوقاته الصباحية والمسائية بدروس العلم والتوحيد والتزكية في المساجد وداره المباركة وبعض المعاهد الشرعية وكان دؤوباً لا يفتر، ومستقيماً لا يلوي على شيء سوى أداءِ ما حُمِّل من أمانة الطريق والتعليم.
كل هذا مع صحبته الهادية وأسلوبه الهادئ في التبليغ بِلِين ِالقولِ وحكمة ِالأداء ما يكشفُ بيقين أنه كان بحقٍّ بقية السلف ربانيّاً عُلويّاً في أموره كلِّها بعيداً عن سفاسفها فأثَّر في قلب كلِّ من كان يلقاه حتى قوّم الكثيرَ من التائهين وصَحَّح المفاهيم لشريحةٍ كبرى من منكري الطريق.
لقد كان الشيخ يتمتع بجماليّة الوضوح وقوة الحجة وأدب الحوار، بالمقابل كانت حَرْبُه معلنةً على كل أدعياء الطريق ومنتحلي حِليته فكان –عليه الرحمة- يؤكِّد في دروسه ومجالسه أن هذا الطريق مشيَّدٌ بالكتاب والسنة، وأنَّ تزكيةَ النفوس من نبع التوجيه النبوي وأنها أصلٌ من أصوله، وعليه فلقد كان يتمثّل قول الإمام مالك: "من تفقّه ولم يتصوّف فقد تفسق-أي لتغلغله في ظلمة الكبائر من باطن الإثم - ومن تصوّف ولم يتفقه فقد تزندق- لبعده عن ضوابط الشرع التي هي المعيار الأصل - ومن جمع بينهما فقد تَحقَّق"
كان رحمه الله عظيمَ التواضع حليماً ذا سكينة ووقار وتأمُّل وتدبر يضع الأمور مواضعَها والحقوق في نصابها والشؤون في وعائها.
الشعر في حياة الشيخ:
بدأ الشيخ منذ صباه نظم القصائد في المعرفة الإلهية وأحوال السالكين إلى الله، وفي مدح الحضرة المحمدية، وقرأ الكثير منها على شيخه سيدي محمد الهاشمي، ولم يأذن له بتضمين اسمه في بيت منها؛ إيثاراً للخفاء، وبعداً عن الشهرة، وقال له شيخه عندما سمع منه قصيدته "رُفِعَتْ أَسْتَارُ البَيْن": "من يسمعها يظنها للشيخ الأكبر" يعني سلطان العارفين سيدي محيي الدين ابن عربي قدس الله سره.
ومن قرأ أشعار أولئك العارفين كابن عربي وأبي مدين وابن الفارض، ثم قرأ شعر الشيخ رأى هذا وذاك يخرج من مشكاة واحدة.
وللشيخ أشعار وقصائد في شتى فنون الشعر وأبوابه، من الرثاء إلى الألغاز، فقد رثى عدداً من العلماء بقصائد طنانة، جارى فيها كبار الشعراء في العصر الحديث، ولا يذهبن بك الظن إلى أن ما بين دفتي هذا "الديوان" هو شعر الشيخ كله فتستقلَّه؛ إنما هو جزء منه، وكثير منه قد ضاع أو تناثر بين أيدي الناس، ولو تيسر جمعه لخرج يربو على هذا بكثير.
في ميدان الحياة:
جاهد الشيخ ضد الفرنسيين أيام الاحتلال، وشارك في الثورة السورية وهو دون العشرين، وله قصيدة عصماء في الثورة والإضراب، ألقاها على مدرج جامعة دمشق أمام أعضاء الحكومة (عام 1945م)، وعمل في الغزل والنسيج، وكافح وناضل من أجل حقوق العمال حتى اختير رئيساً لاتحاد عمال النسيج في دمشق، وعضواً في اتحاد نقابات العمال في سورية وفي اتحاد العمال العرب، وله قصائد مطولة في الدفاع عن حقوق العمال، ألقاها في مناسبات متعددة، وتلقى من أجل جهاده ذلك شهادات تقديرية متعددة.
وفاته: توفي رحمه الله يوم الثلاثاء 20 ربيع الثاني 1425هـ الموافق لـ 8/6/2004
وصُلِّي عليه في مسجد الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي في جنازة مشهودة مَهيبة حيث خرج لتشييعه جُلُّ علماء الشام وجميعُ مشايخ الطُّرق فيها، وبعضُ علماء العالَم الإسلامي.
رحم الله الشيخ وبلَّغَه مَبْلغَ العارفين والعاشقين لربهم وجعلنا على قدمِه نقتفي أثرَه المبارك موروث النور النبوي المُحمدي في سلوك الطريق الحقّ إلى الله تعالى.