الثبات ـ ثقافة
كلنا يعرف قصيدة الأصمعي وقصتها المشهورة، لكن هل تعرف شرحها ؟
تمتع الأصمعي بشهرة واسعة، وذاع صيته في المحافل الأدبية، ومن القصص المشهورة عنه التي تبرز تمكنه الشعري قصيدة صوت صفير البلبل.
من هو الأصمعي؟
عبد الملك بن قُريب بن أصمع الباهلي، وُلد سنة 741م ونشأ في البصرة مهدِ اللغة العربية، تتلمذ على يدِ كبار علماء اللغة كالفراهيدي وحماد بن زيد وغيرهم، ودفعَه حبّه للغة إلى السفر والترحال في البوادي لتعلُّم الفصاحة والبلاغة والبيان من منبعها، وقربه الخليفة الرشيد منه وجعله مؤدبًا لولده الأمين لما تمتّع به من العلم الوافر والمعرفة الواسعة بالأنساب وأخبار العرب وغريب اللغة وقد شهد له الشافعي بذلك، وتوفّي سنة 831م بعد أن أرفد المكتبة العربية بأكثر من ثلاثين مصنفًا وأبرزها الأصمعيات وهي مختاراتٌ شعريةٌ من عيون الشعر في الجاهلية والإسلام، والمقال يسلط الضوء على قصيدته صوت صفير البلبل.
قصيدة صوت صفير البلبل من القصائد العمودية من بحر مجزوء الرجز، ويبدأ الأصمعي قصيدته بتأثره بجمال صوت البلبل وحبه له ثم ينتقل إلى مدح الخليفة وبأنه سيده وسيدًا له ومولاه وهي ثلاثة ألفاظٍ لها المعنى نفسه، حيث يقول:
صوتُ صفيرِ البلبلِ هيجَ قلبي الثّمِلِ
الماءُ والزهرُ معًا مع زهرِ لحظِ المُقَلِ
وأنت يا سيّدَ لي وسيّدي ومولي لي
ثم انتقل إلى الغزل ووصف جمال امرأةٍ وقع في غرامها وكان الإعجاب متبادلًا بينهما وعلامته احمرار خدَّيْ المرأة، لكنها قالت إنّها لا تريد الحب وهربت من المكان ثم عاد الأصمعي مرةً أخرى إلى ذكر موقف بينه وبين المرأة وأنها أخذت بالولولة أي الدعاء على النفس بالويل لو رأى أحدٌ هذا الموقف، فبادر الأصمعي بتهدئة روع محبوبته المصطنع ويطلب منها الضحك كي يظهر اللؤلؤ أي أسنانها وهو من أشكال الغزل الصريح، ثم طلبت المرأة من الأصمعي التقدم لخطبتها من أهلها وأخبرته أنّ خُطابها كُثرٌ ثم وصفت له القهوة التي شربتها وحلاوة مذاقها الذي شبهته بالعسل وطيب رائحتها كرائحة القرنفل وقد احتست تلك القهوة في وسط حديقةٍ غناء ثم شرعت في وصف صوت العود ودندنته وقرع الطبل وكل هذا الوصف من أجل إثارة الغيرة في نفسه، ثم بدأت بوصف سقف المقهى الذي احتست فيه القهوة مع أولئك المُحبين إذ كان يُصدر أصواتًا بسبب ملامسة الرياح لسقفه المصنوع من الأشجار الجافة، ومن ذلك يقول:
فكم فكم تيَّمَني غُزيلٌ عقيقَلي
قطَّفتَه من وجـنَةٍ من لَثمِ وردِ الخجلِ
فقال لا لا لا لا لا وقد غدا مهرولِ
والخُوذ مالت طربا من فِعلِ هـذا الرّجلِ
فولولت وولولت ولي ولي يا ويلَ لي
فقلتُ لا تولولــي وبيني اللؤلؤ لـي
قالت له حين كذا انهضْ وجـد بالنقلِ
وفتية سقـونني قهوة كالعسل لي
بعد ذلك انتقل الأصمعيّ في قصيدته صوت صفير البلبل إلى موضوعٍ آخر ألا وهو كُره أهل المدينة له، ثم بدأ في وصف حماره وأنّه لا يصلح لشيءٍ ثمّ يعود إلى تشبيه حماره بالجمل لدوره في دفع بعض البلاء والشر عنه حين تلقى بعض الطوب الذي رماه الناس به في السوق، ثم عاد مرةً أخرى إلى مدح الخليفة الذي جاءه في قصره ذي اللون الأحمر طامعًا في عطاياه، ومن ذلك يقول:
ولو تَراني راكبًا على حمارٍ أهزلِ
يمشي على ثلاثةٍ كمِشيةِ العرنجلِ
والناسُ ترجُمُ جَملي في السـوقِ بالقَلْقَلَلِ
والكلُّ كَعْكَعَ كَعِكَع خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا من خشـــية العقَنقلِ
إلى لــقاء مـــلــــكٍ مـعظَّمٍ مُبَجّلِ
يأمرُ لي بِخِــــــــلْعةٍ حمـــراء كالدمِ دملي
ويختتم الشاعر قصيدته بمدح نفسه أنّه الألمعيّ، وفي هذا اللفظ مديح وتمويه عن اسمه الأصلي -الأصمعي- وأنه نظم قصيدةً يعجز غيره عن الإتيان بمثلها واختتمَ القصيدة بالشطر الذي سُمّيتْ به القصيدة صوت صفير البلبل، حيث يقول:
أنا الأديبُ الألمعي من حيّ أرض الموصلي
نظمتُ قطعًا زُخرفتْ يعجزُ عنها الأدبُ لي
أقولُ في مطلعِها صوتُ صفير البلبلِ
قصة هذه القصيدة
اشتهرَ الخليفة العباسيّ أبو جعفر المنصور بقدرتِه الفائقة على حفظِ القصائد من أول إلقاءٍ للقصيدة فكان ذلك سببًا في التضييق على الشعراء في بلاطه، إذْ كانَ يردّد على مسامع الشاعر قصيدته بعد انتهائه من إلقائها، ويقولُ له حتّى غلامي وجاريتي يستطيعانِ ترديدها، وكان الغلام يحفظُ القصيدة من ثاني إلقاءٍ أمّا الجارية فتحفظها من المرة الثالثة مهما كان طول تلك القصيدة، فأصاب ذلك الأمر الشعراء بالخيبة والشعور بالعجز وفي الوقت ذاته عدم الحصول على أي مبلغٍ من المال من الخليفة إذ لم يأت أحدٌ بقصيدةٍ لم يسمعها الخليفة، فتناهى الأمر إلى الأصمعيّ وعلِم أنّ في الأمرِ مكرًا وخديعةً فنظم قصيدةً مألفةً من غريب المعاني ومنوّع الكلمات وتنكّر بزي الأعراب كونَه كان معروفًا لدى الخليفة، فوقف بين يديه وطلب منه الاستماع إلى القصيدة التي لم يسمع بها من قبلٍ، فوافق الخليفة وبدأ الأصمعي بإنشاد قصيدته صوت صفير البلبل .
هنالك عجز الخليفة عن حفظها من المرة الأولى وكذلك الغلام والجارية ثم طلب الخليفة وزن ما كُتبت عليه ومكافأة الشاعر بذلك ذهبًا، فقال الشاعر: كتبت القصيدة على عمودٍ من الرخام ورثته عن أبي، فقال الوزير: لا يفعل ذلك إلا الأصمعي، فطلب الخليفة إماطة اللثام عن وجهه، وقال له الخليفة: اتفعل ذلك بي فأجابه الأصمعي: لقد قطعت رزق الشعراء بفعلتك تلك.