الثبات - إسلاميات
كيف عالج الإسلام حالة اليأس والإحباط؟
أشدِّ الأمراض فتكًا بالمجتمعات في ظلِّ ظروف الأزمات، وأثناء هذه المرحلة المظلمة، هو مرض اليأس، فإنَّه نتيجة الضغوط الكبيرة التي يُعاني منها بعض الناس، وفي بعض لحظات ارتفاع حِدَّة الابتلاء، نجد أنَّ اليأس قد يتسرَّب إلى بعض النفوس بالفعل.
وقد مرَّ الصحابة الكرام بمواقف بلاء عظيمة، دفعت اليأس لقلوب بعضهم، ولنعرف موقف رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نضرب مثالاً:
وذلك في موقفٍ من مواقف هذه المرحلة الصعبة، وهو موقفه من خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه عندما جاءه يطلب منه الدعاء بتحقيق النصر؛ فقد كان طلب خبَّاب شرعيّاً لا حرج فيه؛ لكن يبدو أنَّ نبرة كلامه، وطريقة تعبيره، جعلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفهم من الموقف أموراً لم يُصَرِّح بها خبَّاب، وهذا دفعه إلى التفاعل مع الموقف بهذه الصورة، ولنراجع الموقف كما ذكره خبَّاب رضي الله عنه، ثم نذكر تعليقنا عليه.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
إنَّ غضب رسول الله ﷺ راجع إلى أنه اشتمَّ رائحة اليأس في كلام خبَّاب رضي الله عنه، وشعر بأنه ما عاد يتحمَّل، وأنه يستبطئ النصر، وأنه لا يكاد يرى النور الذي وعدهم رسول الله ﷺ أنه يأتي بعد الظلمة، وكل هذه أدواء خطيرة للغاية، وهي أمراض معدية، وقد وضح من الرواية الأولى أنَّ خبَّاباً قال: "شكونا... قلنا...". فهذا يعني أنهم كانوا مجموعة، وكان خبَّاب رضي الله عنه يتحدَّث عنهم؛ فالأمر إذن يحتاج إلى وقفة حاسمة.
كانت المعالجة من رسولنا ﷺ أن يبين لهم:
-إننا لا نختار وقت النصر، ولا نفرض على الله عز وجل وقتًا معيَّنًا يرفع فيه البلاء عنَّا، ولا نُحَدِّد بأي طريقة يمكن لنا أن نعبد الله عز وجل؛ بل الأصل أنه هو سبحانه الذي يُحَدِّد لنا كيف نعبده، وقد علَّمنا كيف نعبده في الضرَّاء بالصبر، وكيف نعبده في السرَّاء بالشكر، وهو سبحانه وتعالى لا يَعْجَل بعَجَلَة عباده، إنما يفعل ما يراه خيرًا لهم، وهو لا يُسْأل عمَّا يفعل، بينما البشر يُسْأَلون.
-تعظيم قدر الله عز وجل في القلوب، ومعرفة العلاقة السويَّة بين العبد والربِّ؛ فهي علاقة طاعة وتسليم دون ضجر أو تأفُّف، فيُقْسِم رسول الله ﷺ أن الله عز وجل سيُتِمُّ أمرَ الإسلام، ويُعِزُّ الدين، وينشر الأمن في البلاد، ويُوَسِّع في أملاك المسلمين حتى تدخل فيه اليمن من شرقها إلى غربها.
-كان كلام رسول الله ﷺ يخرج من فم رجلٍ جرَّب كلَّ هذه الأزمات التي يحكي عنها خبَّاب رضي الله عنه، وعاش مع صحابته هذه الظروف الصعبة، وتعرَّض معهم للإيذاء المعنوي والجسدي، وعانى هو وأهله من معاناة الجنود نفسها، فكان الكلام مقنعًا جدّاً، ووقعت الكلمات في قلب خبَّاب رضي الله عنه، وآتت أكلها بسرعة؛ لأنَّها تخرج من قلبٍ صادقٍ إلى قلبٍ صادق، فنِعْمَ المعلِّم، ونِعْمَ المتعلمين!
رحم الله القائل:
إِذا اِشتَمَلَت عَلى اليَأسِ القُلوبُ ... وَضاقَ لِما بِهِ الصَدرُ الرَحيبُ
وَأَوطَنَتِ المَكارِهُ وَاِطمَأَنَّت ... وَأَرسَت في أَماكِنِها الخُطوبُ
وَلَم تَرَ لِاِنكِشافِ الضُرِّ وَجها ... ًوَلا أَغنى بِحيلَتِهِ الأَريبُ
أتاكَ عَلى قُنوطٍ مِنكَ غَوثٌ ... يَمُنُّ بِهِ اللَطيفُ المُستَجيبُ
وَكُلُّ الحادِثاتِ إِذا تَناهَت ... فَمَوصولٌ بِها فَرَجٌ قَريبُ