أقلام الثبات
صدم اللبنانيون بما سمي "تجويع الجيش"، من خلال زوبعة إعلان متعهدي التغذية المتعاملين معه، أنهم سيتوقفون عن تزويده بالطعام، لأن لهم مستحقات مالية لم تدفعها لهم وزارة المال. في حين لم يمر وقت طويل على "محنة" العسكريين المتقاعدين الذين طالت الحسومات رواتبهم ومستحقاتهم، كما أن التلويح بمد أيدي المسؤولين إلى رواتب عسكريي الخدمة الفعلية ما يزال يلقي بظلاله على العلاقة المأزومة بين "تقشف" الحكومة وبين مختلف الفئات الوظيفية والشعبية.
أزمة تموين العسكريين، إنتهت بشكل أو بآخر، ففي حين يؤكد العارفون أن تهديد المتعهدين كان مجرد تهويل غير قابل للتنفيذ، لأسباب كثيرة ليس سردها في هذا السياق، أكد وزير الدفاع الياس بوصعب أن وزير المال أعلمه بتحويل 15 مليار ليرة لمتعهدي الاغذية لصالح الجيش اللبناني. وانه سيتم تحويل مبلغ اضافي لاحقا. لكن المثير أن وزير المال علي حسن خليل قال إنه "لن يقع تحت ضغط المتعهدين والتجار والمتواطئين مع بعض الضباط"؟! كاشفاً أنّ "هناك 80 الف فاتورة عليها مشاكل ينقصها مستندات. وهي ما تزال عالقة ولن يصرفها طالما لا تراعي الأصول القانونية للصرف". وأضاف: "لا مشكلة صرف للجيش، ولا مشكلة سيولة، إنما المشكلة في الفواتير العالقة، هذه هي القصة كاملة. أمّا الصرف العادي فيسير بشكل طبيعي". ونفى أن "يكون الجيش قد عانى أزمة غذاء".
طي هذه الصفحة لا يعني أن الجيش ليس "جائعاً" بالفعل لما هو أهم من الطعام وهو السلاح الحديث والفعال، الذي يحرم منه منذ عقود، بحجج مختلفة. في حين لا تصمت بعض الأصوات المشبوهة عن الدعوة لإلغاء سلاح المقاومة، تلبية لمطلب "إسرائيلي" يخدم السياسة العدوانية للكيان الذي يغتصب فلسطين.
لا يخفي وزير سابق وعسكري متقاعد، أن مخازن الجيش لم تعد تتسع للملالات والشاحنات العسكرية القديمة، التي تهبها الولايات المتحدة للبنان. فبين وقت وآخر تصل إلى مرفأ بيروت هبة عسكرية أميركية، حيناً تكون عربات وحيناً آخر شاحنات أو ملالات، يعرف اللبنانيون أنها من بقايا سلاح الحرب العالمية الثانية. وحتى الطائرات التي قدمتها أميركا للبنان لا تفيده في مواجهة الإعتداءات "الإسرائيلية"، لعدم التكافوء، فقط تفيد في الحروب الداخلية. لكن "فائدتها" الأساسية بالنسبة للأميركيين ومن يماشيهم، أنها تصادر قرار لبنان السياسي وتمنعه من التزود بأسلحة مناسبة من مصادر أخرى، خصوصاً أن هناك عرضين لتزويد لبنان بكل ما يحتاج من سلاح وذخيرة، الأول من روسيا الإتحادية. والثاني من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
في هذا السياق، يؤخذ على رئيس الحكومة سعد الحريري إهماله إتفاقية التعاون العسكري مع روسيا، حيث يخبّئها في ادراج مجلس الوزراء منذ عامين، رغم وعوده للمسؤولين الروس بتوقيعها. والعسكريون الروس كرروا أكثر من مرة استعداد موسكو لمدّ لبنان بالأسلحة التي يحتاج إليها للدفاع عن ترابه وبحره وجوّه، من أي جهة أتى التهديد ومن دون شروط سياسية. وهو الأمر الذي يسمع اللبنانيون نقيضه من القوى الغربية، التي تقدّم للجيش اللبناني أسلحة "خردة" ولو مجاناً. ولا يخجل هؤلاء وخصوصاً الأميركيين، من التأكيد أن أسلحتهم غير مخصصة للدفاع عن لبنان في وجه الاعتداءات "الإسرائيلية". كما يرفضون تسليم لبنان أسلحة دفاع جوي أو بحري. ويكتفون بتزويد الجيش اللبناني بأسلحة بسيطة لا تتجاوز مديات معينة أو أعيرة معينة أو طاقات معينة، خوفًا من أن تستعمل هذه الأسلحة يوماً ضد العدو "الإسرائيلي". في الوقت الذي يؤكّد فيه الجانب الروسي، دائماً، استعداده لتسليم لبنان أسلحة مضادة للطائرات في عزّ الحاجة إلى حماية سماء لبنان من الانتهاكات "الإسرائيلية"، التي بدأت المقاومة في التصدي لها، وسط إعتراضات ممن لا يريد مقاومة "للإسرائيلي" لا من جانب المقاومة ولا من قبل الجيش.
يذكر أنه عندما وقعت حادثة شجرة العديسة الشهيرة، منذ سنوات، قيل ولم يصدر نفي، أن الأميركيين استدعوا قائد الجيش في حينه، جان قهوجي، إلى أميركا وأسمعوه كلاماً قاسياً وقالوا له بوضوح: إن أي سلاح أميركي ممنوع أن يستعمل ضد "إسرائيل". وإن المخالفة لو تكررت ستؤدي إلى وقف مساعدات (الخردة) الأميركية.
في المقابل، الرئيس الحريري، للمرّة العاشرة ربّما، يؤجّل بحجج مختلفة، إدراج قرار منح وزير الدفاع إذن التوقيع على اتفاقية التعاون العسكري بين لبنان وروسيا، على جدول أعمال مجلس الوزراء. وسبق للحريري أن إستجاب للضغوط الأميركية برفض الجيش اللبناني هبة من الذخائر الروسية قبل نحو عام. وقيل أنها ذخائر سلاح "كلاشينكوف" لم يعد الجيش يستعمله. فحولت الهبة لتتسلمها وزارة الداخلية بدل الجيش، إرضاءً للمسؤولين الروس، لكن وزارة الداخلية، التابعة سياسياً للحريري، لم ترسل حتى الآن رسالةً واحدة تطلب فيها من الجانب الروسي الحصول على الهبة!
كما تعمل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية التابعة لها، عبر أدواتها المختلفة المنتشرة في السلطات اللبنانية، على منع لبنان عن أي تأثير روسي. وتعمل من خلال العقوبات الإقتصادية والضغط السياسي على محاربة وتحريم أي علاقة للبنان بإيران، مما يمنع لبنان من الإستفادة من أي من عرضي التسليح الروسي والإيراني.
جماعة أميركا في لبنان، لا يريدون سلاح المقاومة ولا يريدون تسليح الجيش اللبناني بالسلاح المناسب لردع أي عدو كان. فهل يريدون ترك لبنان للوضع الذي كان عليه قبل نشوء المقاومات فيه؟
فرفض تسليح الجيش بالسلاح المناسب ومحاربة سلاح المقاومة في الوقت نفسه، هو ترك للبنان مستباحاً أمام العدوان "الإسرائيلي". ومن مصلحة "إسرائيل" وحدها منع حصول لبنان والجيش اللبناني على أسلحة ثقيلة. فهل يخرج الجيش من "مجاعة" السلاح، مثلما خرج من "مجاعة" الطعام؟