الثبات - إسلاميات
حرص النبي عليه الصلاة والسلام على هداية الناس جميعاً
على الرغم من كلِّ ما شعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حزنٍ وأذى من المشركين، وعلى الرغم من تكذيب المشركين وتعدِّيهم معنويًّا وجسديًّا على المسلمين، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ظلَّ محتفظًا برغبةٍ صادقةٍ عميقةٍ في دعوتهم إلى الخير، وفي هدايتهم للإسلام! وإنَّ بعضهم ليتخيَّل أنَّنا في مثل هذه الظروف قد تدفعنا الرغبة في شفاء الصدر إلى تمنِّي الشرِّ لهؤلاء المكذبين؛ حتى تُصبح الرغبة عند بعض المؤمنين أن يُخْتَم لهؤلاء المشركين الظالمين بخاتمة السوء، ولا يُوَفَّقون إلى توبةٍ أو إنابة!
ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذه الصورة قطُّ.
لقد ظلَّ يُحاول معهم بكل السبل على الرغم من سخافتهم واستهتارهم؛ بل ظلَّ حزينًا على عدم إيمانهم إلى الدرجة التي طلب الله عز وجل منه أن يُخَفِّف من وتيرة الحزن عليهم؛ حرصًا عليه من أن يُهلكه هذا الحزن!
قال الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}. وقال أيضًا: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾. بل إنَّه قال: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
إنَّنا نُطالع في هذه الآيات درجةً عجيبةً من درجات الحزن النبوي على المشركين والكافرين! إنَّه لا يحزن هنا على ولدٍ حبيب، ولا على صديقٍ حميم؛ إنَّما يحزن على مجموعةٍ من قساة القلوب، غلاظ الأنفس، عنيفي الطباع، عذَّبوا أصحابه وقتلوهم؛ بل عذَّبوه هو نفسه وحاولوا قتله!
إنَّ هذا لموقفٌ يحتاج إلى تدبُّر!
ولقد أفرزت هذه الهمَّة العالية في دعوة المشركين المعاندين مواقف عجيبة، قد نستغربها إذا لم نضعها في هذا الإطار الذي شرحناه..
فمن هذه المواقف مثلًا دعوته بالهداية لرجلين من المكذِّبين له، والرافضين لدعوته، حتى بعد مرور نحو ست سنوات كاملة من الشرح والتوضيح لأمر الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ". فَكَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ.
إنَّنا إن كنَّا نجد في دعوته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه -قبل أن يُسْلم- أمرًا طبيعيًّا لما كان يرى فيه من عوامل القوَّة والنبل والشهامة ما يجعله يتمنَّى أن يكون من المسلمين؛ فإننا نستغرب جدًّا دعوته بالهداية لأبي جهل! وذلك لأنَّ هذه الدعوة كانت -كما ذكرنا- تقريبًا في آخر السنوات الست الأولى من البعثة؛ لأن عمر أَسْلَم بعدها مباشرة كما سيتبيَّن لنا، ومعنى هذا أنَّ هذه الدعوة جاءت بعد مقتل سمية وياسر رضي الله عنهما، وجاءت بعد مراحل التكذيب والإعراض الشرسة التي قام بها أبو جهل، وجاءت بعد قيادة أبي جهل لمعسكر الكفر ضدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجاءت بعد أن حثا أبو جهل التراب على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق مكة ، ومعنى هذا أنَّ المسألة تعدَّت كونها حربًا بين منهجين إلى كونها نزاعًا شخصيًّا في اعتبارات الكثيرين؛ ومع ذلك، ومع كلِّ هذا التاريخ، فإنَّ رسول الله لم يُحَوِّل المسألة قط إلى نزاعٍ شخصي، وما كان ينظر مطلقًا إلى ما يُصيبه في جسده أو عرضه أو ماله، وما فكَّر في حياته في الانتقام لنفسه؛ تقول عائشة رضي الله عنها: "وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلهِ".
هذا كلُّه جعله يرفع يده إلى السماء مخلصًا ليدعو بالهداية لأبي جهل؛ وذلك مع أنَّ الذي يتبادر إلى أذهان معظمنا أنَّه سيرفع يده إلى السماء ليسأل الله الانتقام منه، وليشفي صدور المؤمنين برؤيته في مصيبةٍ أو أزمة؛ ولكن هذا لم يحدث.
إنَّ اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وحرصه على المشركين في هذه الأجواء؛ ليجعل كلَّ ذي لبٍّ يُفَكِّر في نبوَّة هذا الرجل العظيم، فليست القضيَّة مجرَّد أخلاق حميدة؛ إنَّما هي أخلاق النبوَّة، التي لا يقدر عليها من عامَّة البشر أحد!