الثبات - اسلاميات
العارف بالله الشيخ شكري اللحفي رحمه الله
لا يخفى على أحد منا أهمية القدوة في حياة الإنسان، وما للقدوة من أثر في سلوكه وحياته، لذلك نجد من علمائنا اهتماماً كبيراً بموضوع توثيق حياة العلماء والمربين الذين كان لهم أثر في حياتنا ومجتمعنا الإسلامي، وكلامنا اليوم عن رجل أعطانا الصورة الحقيقة لزهد والورع فهر رجل ناجح بحياته وأعماله الدنيوية بل هو مميز بها وجمع مع ذلك الزهد التواضع بشهادة أهل عصره.
مولده ونشأته
ولد فضيلة الشيخ شكري بن أحمد لحفي بدمشق، في الشهر السابع لسنة (1920) من أسرة متوسطة الحال في حي شعبي في (باب السريجة). تزامن مولده مع مرحلة فرضت طبيعتها ظروفاً قاسيةً ولدَّها المستعمر الفرنسي مما أثَّر في وضع المجتمع عامة وفي حياة الشيخ خاصة، إلا أنَّ فضيلته كانت تلحظه العناية الإلهية منذ الصغر، فحبَّب المولى جلَّت قدرته له حفظ القرآن الكريم وترتيله وهو صبي في سن التاسعة، عمل رحمه الله منذ صغره في تصليح الأحذية ليكسب لقمة عيشه التي لطالما كان يطلبها في السفر.
تحصيله العلمي
درس الابتدائية في مدرسة (التطبيقات والحبال) بمنطقة (القيمرية) إلى الصف الخامس حيث حصلت على الشهادة الابتدائية، لم يكن همه اللهو واللعب في الشوارع كما الكثير من تربي، وكان يخصص أغلب أوقات فراغه في تلاوة القرآن الكريم وحفظه على يد بعض المشايخ، وأيضاً في المطالعة لبعض دروسه، وجدَ نفسه منكباً على حفظ القرآن الكريم حتى أكرمه الله بحفظه في ربيعه التاسع، عمل مع أخيه في دكان لبيع الصوف لمدة وجيزة، ثم مال الشيخ إلى تعلم أنواع الخط العربي لدى بعض الخطاطين، ومنهم ممدوح الشريف، وبعد مدة أصبح خطاطاً ماهراً وناجحاً، ثم دخل الكلية الشرعية وحصل على الشهادة الإعدادية، وانتسب إلى الكلية العلمية الوطنية لتعليم الدروس والخط والرسم، وعندما نجح بمسابقة انتقاء عُين معلماً في حلب ثم درعا بمدرسة الطائي، ثم انتقل إلى المدارس الابتدائية بدمشق، وبعدها انتسب إلى التدريب في المقاومة الشعبية.
عين معلماً في منطقة الأشرفية، الواقعة في الغوطة الغربية بدمشق، إلى أن أصبح مديراً فيها، وكثيراً ما كان يذهب سيراً على الأقدام إلى الأشرفية. كان مديراً ناجحاً، خدوماً، نظامياً، ومتسامحاً، كُرِّم من قبل وزارة التربية بكتاب شكر تقديراً لجهوده، ثم ندب لمديرية التربية، ومن ثم إلى وزارة التربية، حيث أصبح الموظف الفني الذي شهد بذلك جل الموظفين والموظفات بابتكاره أساليب وفرت عليهم الوقت والتعب. أجرى دورات لتعليم الخط للمعلمين والمعلمات والمديرين والمديرات في دمشق والمحافظات بعدما أصبح من أبرز الخطاطين في دمشق وكلف بكتابة لوحات بعض المساجد على الرخام، ووهبه الله موهبة الرسم فأبدع به، فهو رسام بارع تظن إذا رأيت رسمه أنه حقيقة.
صفاته الجسدية والنفسية
شيخ منير ذكي نبيه، ملتزم معتدل، بهي الطلعة وسيم الخلقة طيب الرائحة، ذو عينين زرقاوين تشعان ببريق أخاذ وتبعثان في وجوه الناس الأمل والنشاط. إذا صمت: علاه الوقار والهيبة وهو حلو المنطق، إذا قال: استمعوا لقوله، وإذا نصح: عمل بنصيحته.دائم التبسم، صاحب دعابة، حسن المعاشرة مع الأهل الأصحاب وسائر الناس، يعطي جليسه حظاً كبيراً من الانبساط والملاطفة وحسن المقابلة ولو أنه في ضيق، حتى ليحسب الزائر أنه أحب الناس على قلبه يقابل أصحابه وتلاميذه ليدخل السرور عليهم وعلى أولادهم، ويمسح على رؤوس الأولاد، وخاصة اليتامى منهم ويحب إكرامهم، وهو دائم الحرص على تطبيق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في الحديث الشريف: روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشر من الفطرة؛ قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم _عقد الأصابع في ظهر الكف_ ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء _الاستنجاء_). صوته الجهوري محبب إلى الأسماع، ومؤثر على النفوس في القرآن والإنشاد والتكبير؛ فعندما يبدأ بالذكر في مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (الله، الله، الله) يبعث الخشوع في النفوس، إذا صلى بأحد لم يطل، وإذا دعا الله أوجز بكلمات خفيفات طيبات مباركات، ولا ينظر للناس البعيدين عن الدين نظرة القاضي إلى المجرم، بل ينظر إليهم نظرة الطبيب إلى المريض يلتمس لهم العافية، ويدعو الله لهم بالهداية بظهر الغيب.
تواضعه وتسامحه
كان الشيخ ذو خلق كريم، ونفس سمحة، ويد سخية، متواضع أشد التواضع، لا كبر في نفسه ألبتة، فهو الأب المحبب للجميع، لا ينتقص قدر وقيمة كل عالم وطالب علم. أحبه طلاب العلم حباً جماً لمعاملته الطيبة، عندما يجلسون إليه فيحدثهم ويسأل عن أحوالهم وهو يذكرهم يجمعون على شعور واحد أنهم في روضة من رياض الجنة، وأن الملائكة تحفهم، ويشعرون بسعادتهم وأن قلوبهم تغمرها لذة لا يدركها أهل الدنيا وأرباب الدثور، فإنه يتستر على الناس، وإذا أراد أن يقول حادثة حَدَثَت له قال: (أحد ما، من بلد ما، ومن بيت كذا) ولا يحدد الاسم. يحترم الزائر ويلبي حاجته رغم تعبه وألمه في بعض الأوقات مهما طالت زيارته، ويعاملهم بالمداراة والحكمة والموعظة الحسنة، لم يكن أحد يصافحه أو يريد تقبيل يده حتى يبادر هو بهذا قبله، ولا يتركه حتى يترك يده هو. ومن تواضعه: أنه يخدم نفسه بنفسه، ولا يحب تعب الآخرين حتى أولاده، وما أظن أن خلقه في التسامح والتواضع والمحبة إلا نتيجة التربية الصالحة والمجالس المشرفة التي كان يشهدها مع شيوخه. ومن شدة حيائه: أنه لم يواجه أحداً بما يكرهه عنه، بل يعرض ذلك على بعض إخوانه أن يصارحوا ذلك الرجل المقصر ويأخذه بالحلم، ولا يحب ترأس مجلس ما، ولا يطلب وظيفة ولا منصباً، بل كان يزهد بها حتى يُرشح، فلقد عرض عليه منصب مدير معهد القراءات فأبى كرامة لشيخه، وعرض عليه أن يكون مشرف خط في (مراكش) فاعتذر لكي لا يبعد عن أهله وأولاده. أجمع عادة علماء أن يكون هو شيخ الطريقة الشاذلية فلم يوافق مباشرة، لأنه لا يحب المراءاة والتفاخر، ثم وافق غير هياب ولا وجل لم يكن يبرز شيئاً من علمه في الزيارات، وهو الفقيه الذي اشتهر بسعة اطلاعه ودقة معلوماته الفقهية.
المصدر: كتاب العارف بالله الشيخ شكري اللحفي