لست أعني بالأخلاق هنا (النظرية الأخلاقية) فيما يلوكه لبسان الفلسفة، وإنما أقصد الأخلاق الاجتماعية القائمة على مسرح المجتمع بأسواقه وشوارعه وحوانيته وملاهيه ومعابده ودوائره.
فهذه الأخلاق لا بد لها من سلطان يفرض على الناس أن يصبوا سلوكهم في معاييرها ويجبرهم على أن يدينوا لها بالولاء وأن يحملوا أنفسهم عنت الطواعية لها.
فما هذا السلطان؟
لنفرض أولاً أن هذا السلطان غير منبعث من الدين، فماذا عسى أن يكون إذن في حقيقته ومصدره؟
إنه لا بد أن يكون عندئذٍ مزيجاً من إيحاء المفكرين والمصلحين، وسطوة الحكام والمسيطرين، ذلك لأن هذين العاملين هما اللذان يتضافران معاً – بع أن سخر ثانيهما للأول في غالب الظروف _ لتكوين القوالب الخلقية وحمل الناس على صب سلوكهم فيها.
وحينئذ لا بد أن تتميز هذه المعايير الخلقية بالصفات التالية:
أولاً: التأثر باعتبارات البيئة وبالقيم الحضارية والمدنية القائمة في ذلك العصر، إلى جانب احتمال كبير أتن تتأثر أيضاً بالأغراض والميول الخاصة التي لابد أن يصادف وجودها لدى واضعي هذه المعايير.
ثانياً: لا يمكن لهذه المعايير أن تجد ا لقناعة الفكرية بها لدى كل الناس، وذلك بسبب تباين الأغراض الشخصية التي يتسع لها في العادة طريق عريض إلى السيطرة على تلك المعايير وتوجيهها.
ثالثاً: تمتاز هذه المعايير الأخلاقية بتجردها من قدسية الخلود وابقاء خلال الأجيال، وتصبح أعمارها قصيرة الأمد، فهي لا تكاد في معظم الأحيان تعايش جيلاً واحداً حتى يدب إليها الوهن وتتحطم تحت ضربات أهواء واتجاهات وأغراض معاكسة لتلك التي كانت تعتمد عليها من قبل، والتاريخ لا يضن علينا بالأمثلة الكثيرة لهذا التناسخ الخلقي المتوارد على مختلف أنواع السلوك، فمثال واحد من هذه الأنواع كالبغاء الذي يعتبر ذا علاقة شديدة بقضية السلوك والأخلاق. كشف لنا كيف تسلسلت المعايير المتعاكسة له،ـ إذا حسبك أن تعلم أن كثيراً من الشوب المتحضرة في العصور القديمة كالعبريين وقدماء الكنعانيين والبابليين كانوا ينظرون إلى البغاء نظرة تقديس، ويعتبرونه في كثير من الحالات عملاً مبروراً يدفع إليه الخلق الحميد.
أما جريمة القتل فما كانت تعتبر أمراً ذا ابلل كثير من الأحيان لدى دولة مثل روما. فقد كان يحق للرجل أن يغمس وليده الجديد في دن عظيمة من الخمر ثم ينشله بعد ثوان، فإن اختنق مات غير مأسوف عليه، إذ يدل ذلك على أنه لم يكن ليصلح للحياة العسكرية المثالية في نظر روما، أما إن خرج من الدن حياً يختلج فقد أثبت بذلك جدارته بالحياة والبقاء.
وهكذا يبدو المعنى الخلقي أمراً لا حقيقة جوهرية له، فضلاً عن أن تتصف تلك الحقيقة بقدسية الخلود والبقاء، وإنما تصبح كلمة (الخلق) وحدها _مجردة عن معناها _ هي الخالدة فحسب، إذ تغدو ثوباً فضفاضاً متنقلاً بكسى به كثير من أنواع السلوك التي قد تكون في مجموعها متضاربة متنافرة.
رابعاً: ومن شأن هذه المعايير الخلقية أن تتحطم السدود القائمة ما بينها وبين الشهوات والأهواء، إذ كانت المبادئ الخلقية في أصلها سبيلاً للصلح العادل ما بين العقل المتزن والشهوة الهوجاء، غير أن هذه المبادئ حينما تكون من نسج الكتاب والمفكرين أو الحكام والمسيطرين، لا بد من أن تتسرب إليها خيط من الأغراض والأهواء والشهوات نفسها، كما قلنا، وحينئذ تنقلب الأخلاق شيئاً فشيئاً إلى فريسة شهية ملقاة بلين مخالب الشهوات السافلة، حيث تبدأ هذه الأخيرة بتحقيق معظم رغائبها باسم الفضيلة والأخلاق نفسها. وكلنا يعلم أن الفلسفة الوجودية حينما تعلن عن مبدئها التحليلي تضع هذا المبدأ ضمن إطار أنيق من النظام السلوكي.
ثم إن الصورة الكلية التي يتركها مجموع هذه المزايا الأربع لهذه الأخلاق على لوحة المجتمع، هي أخطر صورة لصراعين اثنين، الصراع النفسي القائم في داخل الفرد، والصراع الاجتماعي الناشب ما بين فئات المجتمع وأخلاطه، وهذا الصراع هو الذي يهدد اليوم الكيان الحضاري للغرب من أساسه، وهو الذي جعل كتابه ومكريه يدقون أجراس الخطر على آذان المسؤولين بقوة وهلع كي يتداركوا الخطر قبل فوات الأوان.
كانت هذه هي صورة (الأخلاق الاجتماعية) حينما فرضنا أن ليس للدين عليها من سلطان، وأن ليس له من دخل في وضع معاييرها.
والواقع أن هذه المشكلة هي من أهم الحِكَم الأساسية التي اقتضت أأن يتعبد الله عز وجل عباده بالدين، وأقول (الدين) لا (الأديان)، لأن الدين الذي تعبد الله به عباده دين واحد، ولئن اقتضت طبيعة الأزمان أن تتوالى عليه صور تجددها عبر التاريخ فلقد تجمعت أخيراً كل هذه الصور في مظهر واحد أخير وهو الإسلام.
فلقد جاء الدين ليتسلم هو زمام قيادة المجتمع ضمن المخطط الخلقي الذي يضعه هو، إذ كان الله عز وجل _ وهو الخالق لعباده والفاطر لعقولهم وشهواتهم - أدرى بما يصلح للعباد، وأعلم بالصراط السوي الذي يؤلف انسجاماً بين مختلف دوافع الإنسان وأغراضه، جاء الدين فوضع على بعض أنواع السلوك عنوان الخير، وعلى بعضها الآخر عنوان الشر.
وكان لا بد _ لكي يوقن الناس أن النداء المحذر من الشر، والآمر بالخير، إنما هو آت من الله تعالى _ من ركن العقيدة الإسلامية التي تجعل صاحبها يوقن بوجود الله ووحدانيته، وبأنه ما خلق هذه الكائنات عبثاً لمجرد الإفناء، بل هناك يوم آخر ثقيل في طوله وعرضه يحاسب فيه الناس جميعاً على ما قدموه في حياتهم الأولى، فمجازيهم بالخير مثوبة وأجراً وعلى الشر عقوبة وضراً.
وكان لا بد _ لكي يظل غرس العقيدة الإسلامية قوياً في النفس _ من أن يسقي بماء العبادة بمختلف صورها وأشكالها، فبذلك تنمو العقيدة في الفؤاد وتنزرع، وتثبت أمام عواصف الحياة وزعازعها.
وهكذا تتكامل عناصر الدين وشروطه التي يتوقف عليها إمكان إيجاد انسجام تام بين المؤمن والأخلاق الفاضلة التي دعا إليها، ويصبح المعنى الأخلاقي حينئذ حقيقة ذاتية لا تنسخها الأعراض والاعتبارات، إذ هي تنبع من علياء هي أسمى كثيراً من مذاهب الكاتبين ورأي العقلاء والمفكرين، وما دام أنها تفرض نفسها من تلك العلياء فإن الجميع يستريحون من عناء التسابق إلى فرض إرادتهم المختلفة وتحقيق أغراضهم المتباينة، ومهما عظمت مسؤولية تحقيق هذه الأخلاق على النفس واشتدت قسوتها على الشهوة والهوى، فإن العقيدة الجاثمة في الفؤاد تمد صاحبها بقوة هائلة تجل عن الوصف من شأنها أن تذيب لواعج النفس والهوى وتحيلها إلى هباء.
وإن مثالاً واحدا ًعلى هذا _ كمثال تجربة تحريم الخمر مر ذكرها _ يكشف بوضوح عن المعجزة الخارقة التي أبدعت أسمى (الأخلاق الاجتماعية) من نفوس طالما تملكها واسترقتها الأهواء.. فما هي إلا آية واحدة تلاها المبلغ على أسماع أولئك الذين نبتت في قلوبهم عقيدة الإسلام، حتى تحطمت الأقداح تحت الأقدام، وأريقت الخمر المعتقة على الأرض، وارتفعت أصوات الجميع قائلة: لبيك .. لبيك .. لقد انتهينا يا رب...
وينبغي ان نتساءل هنا: ما هو مكان مجتمعاتنا من هذا كله؟ أهي منقادة للمعايير التي يضعها الدين أم المعايير الأخرى التي يفرضها الأخرون؟
والحقيقة أن مجتمعاتنا اليوم لا تسير وراء واحدة من هاتين القيادتين فحسب، بل إنها لا تكتفي بالانقياد لهما وحدهما وإنما تتبع في سيرها عدة جوانب مختلفة متعارضة، أضعفها الدين وأشدها تقليد أطياف شتى أتية من المدنية الغربية، وإنها لتبدو وسط هذه الجوانب متحركة في اضطراب غير سائرة في مخطط أو اتجاه.
ولقد أورثتها هذه الانجذابات المتباينة صراعاً نفسياً واجتماعياً أشد عتواً من الصراع القائم في الغرب، والسبب أن سلطان الدين في المجتمع حينما لا يزيد على كونه جاذباً من جملة الجواذب الكثيرة الأخرى فإنه لا يفيد أكثر من أن يزيد الصراع شدة وأواراً.. ولا تفهم الأخلاق الإسلامية حينئذ إلا على أنها قيود ثقيلة مؤسفة، وذلك هو شأن الإنسان عندما تكون إرادته نهباً لجملة من الدواعي والمؤثرات المختلفة المتصارعة.
ولقد اعتاد الذين يستثقلون ظل الدين وتبعاته، أن يتواروا من مواجهة هذا الحق وأن يختصروا الطريق قائلين: إن السلوك المستقيم إنما يأتي من يقظة الضمير، فالضمير وحده كاف في حمل صاحبه على اتباع سبيل الحق وردعه عن الانحراف إلى الباطل.
ولست أجد كلاماً أوضح فيه الفساد وأظهر من هذا الكلام.
إذ الجميع يعلم أ، الضمير _ حتى لو انتبه واستيقظ _ إنما هو حاكم ومقرر لا أكثر، والكل يعلم أن سلوك الإنسان في الحياة لا يخض لمجرد الحكم والتقرير، وإنما يخضع في غالب الأحيان للدوافع النفسية القائمة بين جنبيه، وهي دوافع تستقي قوتها من ظروف المجتمع وأحواله مغرياته.
فكم من كذوب وهو يعلم في كل ساعة أن الكذب أمر لا يحمده الناس، وكم من موظف يرتشي وهو يدري أن الرِّشوة جريمة، وكم من سارق للمال والأعراض وهو غير جاهل أنه بعلمه ذاك وغد وسافل، بل كم شاهدنا من أناس يتبجحون بالحديث عن الضمير ويلقون الرنانة في الكشف عن أسرار الخلق والضمير، ثم ينقلبون إلى لصوص يعتدون على أقدس ما يقدسه الخلق والضمير.
وأنا أقول: لقد تضافر وتعاون كل من الضمير وسلطة القضاء لإخضاع الناس لحكم الضمير، فلم يستطع كل ذلك أن يتغلب على دوافع النفس وأهوائها، وظلت الجرائم كلها ترتكب تحت سمع الضمير والسلطة والقانون، أولئك يتوارون ويرتكبون، وهؤلاء يظلون يلاحقون ويعاقبون.
إن الحق الذي لا يمتري فيه عاقل، هو أن العاصم الوحيد الذي يمكنه أن يحجز الإنسان من الانحراف إنما هو أن تقوم محكمة تامة برئيسها وأعضائها في داخل الفؤاد، ولن تجد هذه المحكمة _مهما حاولت_ إلا في العقيدة الإسلامية إذ تغرس بعناية في الفؤاد، فهي التي تغالب الدوافع النفسية حتى تغلبها ثم تتولى هي القيادة والتيسير.
وإن من أعظم ما هو مؤسف، أن بعض المسلمين لا يريدون أن يسمعوا مثل هذا الكلام فضلاً عن أن يتدبروه ويفكروا فيه، على حين أن المستعمرين يغتبطون لهذا الاغتياظ العظيم.