الحج ومظاهر الوحدة الإسلامية

الإثنين 27 تموز , 2020 01:53 توقيت بيروت الوحدة والتقريب

الثبات - الوحدة الإسلامية 

 

الحج ومظاهر الوحدة الإسلامية

 

يتوجه المسلمون في مثل هذا الموسم من كلِّ عام إلى المشاعر المقدسة رغم الحدود والقيود والسدود... فمن شاء الله سبحانه له الحج توجه بقلبه وجسده، ومن لم يكتب له الحج توجّه بقلبه، ولسانه يلهج بالدعاء... إنَّه الحج؛ مظهر بارز من مظاهر وحدة المسلمين، مهما حاول الكفار المستعمرون وأتباعهم من حكام بلاد المسلمين أن يفقدوه مضمونه، ومهما أمعنوا في تمزيق الأمة.

فمن أعظم مقاصد شعيرة الحج الوحدة الإسلامية والعالمية والمساواة والحوار البناء بين مختلف ثقافات وحضارات العالم، فالحج مؤتمر لربط أمة الإسلام بمركز واحد، يديم لها رباط الدين، ويجدده فيها، ويوثق خيوطه، ويشدها بواسطته إلى ذكريات السلم والسلام والأمن والأمان الذي انبثق في فجر رسالتها فهداها وأخرجها من الظلمات إلى النور، وفي الحج تتجلى "الوحدة الكاملة للأمة الإسلامية" بكافة شعوبها وأعراقها وأقطارها ومشاربها، وحدة في المشاعر والشعائر، ووحدة في القول والفعل، لا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية ولا طبقية، وإنَّما الجميع مسلمون، وبرب واحد يؤمنون، وببيت واحد يطوفون، ولكتاب واحد يقرأون، ولرسول واحد يتبعون، ولأعمال واحدة يؤدون، ولهدف واحد يسعون.

الحج فرصة لكلِّ حاج كي "يجسد" الوحدة الإسلامية و"يستمتع" و"يعمق" شعوره بها - ولو لبضعة أيام أو أسابيع - فليوثقها بحسن التعارف والتآلف، وبالتعاون وحسن التعامل، وبتبادل الآراء والأفكار والمعلومات، متوجاً ذلك كله بالمحبة والإخاء ويبرهن للعالم بأسرة أنَّ الإسلام هو دين البشرية كلها ينبذ العنصرية والتمييز والتفرقة كما ينبذ العنف والإقصاء، فهو دين التسامح والمحبة والتآخي والتكامل.

قال ربنا تبارك وتعالى:

{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 27-29].

 

أجل؛ إنَّه الحج ونفحاته الإيمانية التي تنقل الإنسان من الإنسانية التي لا معنى لها إلى معنى الربانية الحقة بكلِّ جوارحه وقلبه وكيانه، والذي يدهشك أكثر -عندما تراهم وتنقلك أفعالهم إلى عالم عباد الله الذين أسلموا وجوههم لله حقًّاً- هو ذلك الخضوع التام، والاستسلام الكامل في فعل كافة شعائر الحج ومناسكه، الكل منهم -والله حسيبهم- يؤديها بيقين وإيمان، ويسعى لها طائعاً مطمئناً؛ ليس إلا لأنَّها منسك من مناسك الحج الذي أمر به الله، وهداهم إليه نبي الأمة عليه الصلاة والسلام قائلاً: "خذوا عني مناسككم".

إنَّ فريضة الحج، وتلك الدروس والعبر المستوحاة منها تنبئك بحكمة عظيمة تظهر لعباد الله من فرض هذه الفريضة في زمن معلوم، ووقت محدود، ومكان واحد؛ ليكون أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية على مختلف شعوبها واختلاف لغاتهم، وليكون المؤتمر السنوي للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كافة أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعاً؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله تعالى، فيجددّون فيه العهد مع الله؛ تراهم هناك كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

 ولم تغفل السنة النبوية جانب الوحدة في الحج واستغلال فرصة اجتماع المسلمين من كلِّ البلدان، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إظهار أثرها والتذكير بها في خطبته في حجة الوداع لتبقى كلماته منار هدى للأمة عبر القرون فقد جاء فيها:

"أَيهَا النّاسُ، إنّما المُؤمِنُونَ إخْوةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لامْرِئ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طيبِ نفْسٍ منهُ، أَلاَ هَلْ بلّغْتُ، اللّهُم اشْهَدْ، فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض فَإنّي قَدْ تَركْتُ فِيكُمْ مَا إنْ أخَذتمْ بِهِ لَمْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، كِتَابَ اللهِ وَ سُنَّة نَبيّه، أَلاَ هَلْ بلّغتُ، اللّهمّ اشْهَدْ، أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إنَّ أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد، قَالُوا: نَعَمْ قَال: فلْيُبَلِّغِ الشاهدُ الغائبَ والسلامُ عليكم ورحمة الله"

 فبدء حديثه بتذكير المجتمعين بأنَّ ما يجمعهم أخوة الإيمان التي لا تعدلها آصرة من الأواصر الدنيوية التي يصف قوتها في حديث آخر بقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" لذا عقب بالتحذير من الرجوع عن الأخوة الإيمانية لحال الفرقة والتنازع ووسم ذلك بالكفر المناقض للإيمان الذي يؤلف ولا يفرق.

فالوحدة بين أفراد الأمة نرى معناها في الحج جليًاً كوضوح الشمس؛ وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في القول والعمل؛ لا إقليمية، ولا عنصرية، ولا عصبية للون، أو جنس، أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام: "إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".

 

في الحج تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل، يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا ‏ ‏لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، يجتمع ضيوف الرحمن في رحلة إيمانية يكتمل بها خامس أركان الإسلام، الجميع لبّوا نداء الحق للخليل إبراهيم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، إنَّه الحج الذي يعطي صورة حقيقية لوحدة الأمة الإسلامية في أروع صورها، فالمسلمون من كلِّ أنحاء العالم يجتمعون في مكان الحج، ويؤدون معاً مناسكه؛ فهو الاجتماع الديني العالمي للمسلمين، وهوَ ركنٌ من أركان الإسلام لِمن استطاع لهُ سبيلاً، وللحجّ ثمرات كثيرة ومظاهر يتميز بها الحج عن غيره من العبادات.

 

مظاهر وحدة المسلمين في رحلة الحجّ المباركة

 

ووحدة المسلمين في الحج تشمل عدة مظاهر من الوحدة يتعايش الناس على ضوئها:

 

1- وحدة الأصل الإنساني والقضاء على فكرة الحدود الجغرافية: قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، وفي الحديث "ألا لا فَضْل لعربيّ على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".

2- وحدة العقيدة والدين: قال الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].

3- وحدة الزمان والمكان، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، ويقول جلّ شأنه: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97].

4- وحدة في الشرائع والشعائر: فهي شريعة الحج بطوافها وسعيها وندائها واحد ولا اختلاف فيه.

5- وحدة في الشكل والمظهر، وتتجلى في لباس الإحرام المكون من إزار ورداء أبيضين هو لباس كلِّ الحجيج استعاضوا به عن لباسهم المعتاد في حياتهم العادية.

6- وحدة في النداء والتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.

 

وحدة الأمة الاسلامية منهج رباني، وهدي نبوي، جاء به الإسلام، وأرساه قيماً، وسلوكاً، وعملاً، وعبادة في كافة نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.

فهلّا استقرأنا تلك المعاني والحكم من هذه الفريضة، واستوعبنا تلك المواعظ والعبر، واستجبنا لنداء الباري عز وجل:

{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل